في اقل من 3 ايام، تراجع ​مصرف لبنان​ عن بلاغه الأخير الموّجه الى ​المصارف​ بتخفيضه سقف السحوبات النقدية بالليرة، ورفع كلفتها بشكل كبير عليها للحد من قدرتها على الاستحصال على العملة الورقية.

والمصارف التي وافقت على مضض على الاجراء مبرّرة موجباته رغم امتعاض ​التجار​ والمستوردين و​المقاولين​ وغيرهم سارعت في بيانها الأخير قبل يومين الى زف البشرى السارة الى عملائها على مختلف المستويات عدم السير به ، مؤكدة كما جاء على لسان الجمعية انه وبعد تأكيد مصرف لبنان إستمراره في إمداد المصارف ب​السيولة​ النقدية كالمعتاد، سوف تواصل تأمين ​السيولة النقدية​ بالليرة اللبنانية للسوق بشكل طبيعي وفق ما جرت العادة خلال الفترة الماضية بغية الحفاظ على الإستقرار في الأسواق.

كما اكدت ان السيولة بالليرة مؤمَّنة من قبل مصرف لبنان والمصارف دون أن تكون هذه الأخيرة محصورة بالسيولة النقدية. ودعت المواطنين وزبائن المصارف الى إستعمال الوسائل الأخرى المتاحة لديهم كبطاقات الإئتمان، الشيكات والتحاويل المصرفية.

وربما امتنان المصارف للحاكم على عودته عن الاجراء المذكور مرتبط باعادة رفع سقوف ما يمكن أن تسحبه من حسابها الجاري لدى مصرف لبنان دون احتساب هذه المبالغ المطلوبة من حساباتها المجمدة لديه.

من المعلوم انه سبق للمصارف منذ عام أن قيّدت نسبياً السحب بالليرة. وفيما البعض يعتبر ممارسة ضغوط جديدة على المسار النقدي المتردي أساساً، سيكون له تداعيات سلبية وغير داعمة للوضع المعيشي المأزوم اصلا والمرهون للغلاء المتصاعد بشكل دراماتيكي ، مع الانذارات المتتالية حول قرب نفاد الاحتياط من ​العملات​ الصعبة المستخدام في دعم تمويل السلع الأساسية والسلة الغذائية المعتمدة من قبل وزارة الاقتصاد ، كما انه سيؤدي الى تجفيف النقد من بين أيدي التجار بشكل أساسي، للحد من عملية تبديل الليرة ب​الدولار​ في السوق الثانوية، وفرملة عمليات الاستيراد مع زيادة ​الانكماش​، اذ ان التجار الذين يقبضون الاموال الكترونياً سيعجزون تبعاً لهذا القرار عن تحويلها الى نقدية، وبالتالي لن يسمح بتوفير القدرة الشرائية المطلوبة للمستهلكين، وذلك بالتزامن مع عدم قبول عدد كبير من التجار بوسائل الدفع الإلكترونية والشيكات لعدم إمكانية تسييلها، فان ثمة من يضعها في خانة التدابير العادية التي تعتمدها ​المصارف المركزية​ في العالم لضبط السوق.

سياسة الزيادة السريعة بالكتلة النقديّة بالليرة طوال الفترة الماضية، نتيجة طبع النقد لتمويل ​الإنفاق الحكومي​ وتمويل السحوبات من الودائع المدولرة بالليرة، أدت بدون شك إلى هبوط سعر الصرف الليرة بشكل قياسي.

يبدو أن تقنين المركزي للسيولة التي يضخّها للمصارف يعكس التوجّه الجديد، والقاضي بمحاصرة الكتلة النقديّة الموجودة بالليرة في الأسواق، ومحاولة تخفيض حجمها تدريجيّاً.

ما هي الخلفيات الحقيقية لبلاغ المركزي الاخير الذي لم يكتب له التطبيق؟

عنداري

نائب حاكم مصرف لبنان السابق الدكتور سعد عنداري يلفت الى ان "المركزي" تراجع عن هذا التدبير الذي لم يكن تعميما وانما بلاغا للمصارف بوجوب تخفيض سقف السحوبات النقدية بالليرة. فقد أراد من خلاله وضع سقوف للقطاع لما يمكن ان تسحبه من حسابها الجاري لدى مصرف لبنان.

ويرى انه كان بالامكان تطبيق هذا التدبير على فترة زمنية محددة لأنه سيؤتي بنتائج ايجابية على مستوى ​الكتلة النقدية​، سيما وانه ما كان يتم سحبه من قبل المودعين لم يدخل الى السوق لتحريك منظومة الدورة الاقتصادية كما هو مفترض، وانما قبع مع الادخارات في ​المنازل​، ما اجبر مصرف لبنان في الفترة الماضية على طبع المزيد من العملات النقدية الجديدة لتلبية الطلب المتصاعد في السوق.

ويربط عنداري ايجابية التدبير بأولا: انه كان سيؤدي الى تجفيف العملات النقدية "الكاش" الموجودة بين ايادي المتعاملين مع المصارف، وهذا سيحملهم بالتأكيد الى سحب مما يدخرونه من خارج المصارف من عملات واستعمالها، وبالتالي، ضخّها في السوق.

ثانيا: بعد نفاد الليرة بسبب تقنين عمليات السحب، سيتم اللجوء الى استعمال عملات الدولار التي يدخرها المواطنون ايضا في منازلهم، وضخها في السوق. وهذا سيساهم في تعزيز احتياطي "المركزي".

ويقول عنداري لـ"الاقتصاد": عام 2019، شكلت الاوراق النقدية نسبة 3% من كل الودائع اما اليوم اصبحت بنسبة 11% بعد الانفلاش الكبير الذي حصل خلال الفترة الماضية.

ويربط التراجع عن التدبير بتخوّف مصرف لبنان من اتهامه بتكبير حجم ​التضخم​.

واذ لا يخفي عنداري ملاحظاته على السياسات المالية والنقدية المتبعة ولاسيما الحكومية يسأل وفق اي منطق وقانون تجيز حكومة ​حسان دياب​ المستقيلة لنفسها الاعلان عن تعليق تسديد استحقاقات اليوروبوندز او دينها الى الخارج، دون ان تكلف نفسها العناء وتحديد موعد للتفاوض مع هؤلاء الدائنين؟

هذا التصرّف غير الحكيم أدخل البلاد في مطبّات كبيرة، اهمها اقفال ابواب الخارج على الداخل اللبناني وتخفيض التصنيف الائتماني للقطاع المصرفي.

ويؤكد عنداري ان عدم الدفع هوبمثابة اشهار ​افلاس​ الدولة. وكان على الحكومة تحمّل اخطاء الحكومات السابقة، والالتزام بالتسديد لأن هذا يعطينا فرصة للتفاوض مع الدائنين حول اعادة جدولة السندات بعكس التخلّف عن الدفع الذي يفقدنا المصداقية مع الدول المانحة.

اخيرا، لا بد من الاعتراف بان المرحلة دقيقة ومراقبة السياسات النقدية جزء لا يتجزأ من السياسة الاقتصادية التي ما يزال يفتقدها لبنان حتى اليوم