من الطبيعي أن يحصل التحرك الشعبي النقابي في مختلف المناطق اللبنانية رفضا لرفع الدعم عن السلع الرئيسية الثلاث ​القمح​ والدواء والمحروقات، ومن الطبيعي أن تقوم تحركات أخرى احتجاجا على الغلاء الفاحش والذي هو نتيجة حتمية لانهيار القدرة الشرائية للّيرة بعد خسارتها أكثر من 80% من قيمتها.

المستغرب في التحرك هو توقيته والجهات الداعية له. ليس لأن الانتفاض على واقع الانهيار يتطلب توقيتاً خاصاً، وليس لأن الداعين لا يحق لهم تنظيم هكذا خطوة. فالتحركات الشعبية مطلوبة في كل وقت لتصويب وضع معين أو إسقاط نوايا مبيتة ضد الطبقات الشعبية، وهي مفيدة إذا استمرت وتواصلت حتى تحقيق الأهداف، أياً كان من يحرّكها.

"الاتحاد العمالي العام" الذي بادر إلى هذا التحرك موضع شك، فهو كما يعلم الجميع، ائتلاف لنقابات وهيئات عمالية تابعة للأحزاب الرئيسية في البلد، وتعكس هيئته التنفيذية التمثيل الدقيق للقوى السياسية، وهو بالشكل لا يختلف عن أي حكومة تشكّلت في السنوات الأخيرة، بوصفها انعكاسا لمجلس النواب المنتخب على أساس قانون معدّ سلفاً لتجديد تمثيل الطبقة السياسية نفسها. لذلك فإن "الاتحاد العمالي العام" ليس سوى حلقة أخيرة من تركيبة السلطة التي تبدأ بتوزيع الرئاسات سياسياً وطائفيا، وتحتها تأتي الحكومة الائتلافية الطائفية، وتحتها البرلمان وهو مجلس تمثيلي للأحزاب الطائفية. ومهمة كل هذه المؤسسات ديمومة النظام القائم، واستمرار نموذجه الاقتصادي الفاشل في إدارة البلد. أما مهمة "الاتحاد العمالي" بصيغته الحالية فهي البصم على قرارات السلطة وتمريرها شعبيا.

الدليل الساطع على ذلك تجسد في "ثورة 17 تشرين"، حيث غاب "الاتحاد العمالي العام" تماماً عن الشوارع المنتفضة، وكل ما سجّله منذ سنة وحتى اليوم، زيارة وفود منه لبعض المسؤولين لتقديم مذكرات مطلبية معينة تجاوزها الشارع. ومثال على ذلك أن الاتحاد لم يتحدث يوما عن استعادة الأموال المنهوبة، أو عن محاسبة المسؤولين عن إدارة الدولة خلال العقود الماضية. إذ لا يمكن للممثلين النقابيين لأحزاب السلطة أن يدينوها لأنهم سيدينون أنفسهم وزعمائهم.

لنذكر أن "الاتحاد العمالي" كان في ما مضى الممثل الفعلي للعمال لأنه ضم في صفوفه النقابات التي تمثل القطاعات العمالية والتي كانت تنتخب قيادتها في جمعيات عمومية حاشدة وحية، فكانت تعكس المزاج السياسي العام للجمهور العمالي، فكان لدينا نقابات ذات ميول يسارية وأخرى يمينية، وثالثة مستقلة، ولكن الهدف المشترك لها كلها، كان مقارعة أرباب العمل والدولة من أجل تحسين معيشة العمال، باعتماد الوسائل السلمية الحضارية مثل الإضرابات والتظاهرات.

كان الأمر كذلك قبل الحرب الاهلية وخلالها، ولكن مع توقيع اتفاق الطائف نشأت سلطة جديدة في لبنان، جعلت هدفها الأول تدجين "الاتحاد العمالي" وتطويع نقاباته.

يقول ​الخبير الاقتصادي​ محمد زبيب: "الاتحاد العمالي العام أصبح أداة حاسمة من أدوات "تدجين" المجتمع برمّته، منذ أن نجح تحالف أمراء الحرب والمال المغطى من سلطة الوصاية السورية، في الاستيلاء على الدولة والاستئثار بالثروة والسطو على الأصول الوطنية وتكريس سياسات إعادة التوزيع لصالح ​الأثرياء​ والمضاربين والقبض على الاقتصاد عبر تعزيز طابعه الريعي وتبعيّته للتدفقات المالية الخارجية، ولا سيما الناتجة من العمليات غير المشروعة التي تعزز ارتهان البلد وسيادته ومصالحه العامّة لحفنة من المتاجرين بالولاءات الدولية والإقليمية طلباً للحمايات المزعومة".

تدجين الاتحاد كان جزءا من حفلة التدجين الشاملة للسلطة والبلد في مرحلة ما بعد الطائف. ومنذ ذلك الوقت خرجت النقابات الفاعلة تاريخيا من الاتحاد العمالي، فتم استبدالها بنقابات أخرى ليست في الواقع نقابات حقيقة وإنما هي "مصلحة" أو "هيئة العمال" في هذا الحزب أو ذاك.

توقف "الاتحاد العمالي" عن التحرك والعمل في الشارع واقتصر دوره على اجتماعات وبيانات وعلى لقاءات مع ممثلي الدولة وأرباب العمل من أجل تدوير الزوايا في هذه المسألة أو تلك.

"انتفاضة 17 تشرين" فضحت هذه المؤسسة السلطوية على حقيقتها. فالثورة لا تحصل إلا عندما تخفق القيادات النقابية في تحصيل الحقوق وممارسة الضغوط لتصويب ​الأداء الاقتصادي​ للدولة منعا لحصول الإفلاس والإنهيار. و"الاتحاد العمالي" فشل بغيابه المدوي، وهو في الحقيقة غيب نفسه عندما كان اللبنانيون بحاجة إليه قبل وأثناء الانتفاضة.

السؤال الذي يطرح اليوم لماذا يتحرك الاتحاد العمالي على بعد أيام من الذكرى السنوية الأولى لـ "انتفاضة 17 تشرين"، وهل الهدف استباقي ومحاولة لإمساك الشارع وتدجينه من قبل قوى السلطة اللابسة لباس العمال؟

هل تدير هذا التحرك بعض أحزاب السلطة ضد أحزاب أخرى من السلطة إياها؟ والمقصود هنا، مجموعة الطائف، وهي قوى سياسية تتفق على إبقاء النموذج السياسي – الاقتصادي القائم، الذي مكنها من التحكم بالبلد وسرقة ماله العام، حتى لو كان البعض منها خارج الحكم لفترة تلعب فيه دور المعارضة. وقد سمعنا الكثير من الأحزاب تطالب الناس بالنزول إلى الشارع.

صحيح أن التحرك الشعبي ضد رفع الدعم مطلوب وبقوة تجنبا للمجاعة في لبنان، ولكن هل يستمر "الاتحاد العمالي" المزعوم في هذه المعركة حتى النهاية؟ أم انه سيتوقف بكبسة "​ريموت كونترول​" سياسية، تماما كما تحرك بكبسة مماثلة؟

هل يذهب الاتحاد إلى أهدف إسقاط الطبقة السياسية وممثليها الماليين لأنهم المسؤولين عن إفلاس الدولة واستنزاف احتياطي ​مصرف لبنان​؟

الخشية هي أن يكون هذا التحرك مجرد فشة خلق مبرمجة ومضبوطة، على طريقة "جربنا وتحركنا وما قدرنا"، على أن تستمر بعدها خطط السلطة بتحميل الفقراء كل خسائر المالية الناتجة عن حكم "مجموعة الطائف".