من الطبيعي ان استثمار اي بئر للغاز يقع ضمن حدود مشتركة يحتاج الى توافق الدول التي تبسط سيطرتها عليها لتلافي اي نزاع محتمل في المستقبل . وقد يكون حقل كاريش الشمالي قبالة الساحل الشمالي الغربي ل​إسرائيل​ دافعا اساسيا لاي مفاوضات بينها وبين ​لبنان​ بعدما اعلنت "إنرجيان" اليونانية للطاقة في نيسان 2019 إنها حققت اكتشافا ضخما لما بين 28 و42 مليار متر مكعب من ​الغاز​ الطبيعي في الحقل المذكورالذي لا يبعد أكثر من 5 كيلومترات عن الحدود البحرية اللبنانية، و4 كلم عن البلوك 8 ، و6 كلم عن البلوك 9 العائدان إلى لبنان . وقد برز تطوّر في ما خص الحدود البحرية المتنازع عليها مع ​اسرائيل​، تمثّل في وصول الحفارة الأولى الى حقل "كاريش" الواقع على الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. هذا الحقل الذي أعلن وزير الطاقة الاسرائيلي يوفال شتاينتس نهاية العام 2016 موافقة تل أبيب على بيعه، بالاضافة الى حقل "تانين" لشركة "انرجين" اليونانية، وتقدر احتياطاتهما بما يقارب 60 مليار متر مكعب.

وفي غضون ذلك، في عام 2018 وقّع لبنان أول عقد له للتنقيب البحري عن الغاز والنفط في رقعتين في المتوسط مع اتحاد شركات يضم "توتال" الفرنسية و"ايني" الإيطالية و"نوفاتيك" الروسية.

وفي آيار 2019، أعلنت ​الحكومة الإسرائيلية​ أنّها وافقت على بدء مباحثات مع لبنان برعاية ​الولايات المتحدة​ لحل النزاع الحدودي، ولكن النزاعات السياسية والتدخلات الاقليمية في الداخل اللبناني ابعدت النوايا الجدية لاي محادثات لفترة طويلة ، الى ان اعلن في 8 ايلول الفائت مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر تقدّما على صعيد بدء المباحثات، مبدياً أمله في العودة إلى لبنان وتوقيع هذا الاتفاق في الأسابيع المقبلة.

حتى تاريخه، لا احد يمكنه التنبؤ بما ستسفر عنه مفاوضات ترسيم الحدود البحرية التي طال انتظارها منذ اكثر من سنتين رغم التسريبات المتتالية بان سكة القطار ستكون معبّدة بمواقف من هنا ومواقف من هناك ، رغم المباركة الدولية وخصوصا الاميركية لهذا اللقاء الذي يرى فيه البعض ليونة في موضوع ​العقوبات​ وخطوة على طريق فك الحظر على لبنان، قد تعيده من منتصف الطريق الى جهنم ، سيما وانه سيحضرها ديفيد شينكر الذي تكفّل بهذ الملف الدسم حازما بما سيؤتي من خواتيم رابحة لادارة ​الرئيس الاميركي​ ​دونالد ترامب​ عشية الانتخابات الرئاسية من جهة ، ومن فائدة لكل من لبنان واسرائيل.

وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قد عبرّ عن ذلك لافتا الى ان هذا الاتفاق "ثمرة جهود دبلوماسية حثيثة استمرت نحو 3 سنوات. وهوسيتيح للدولتين الشروع في مباحثات من شأنها أن تفضي إلى مزيد من الاستقرار والأمن والازدهار للبنانيين والإسرائيليين على حد سواء".

واعتبر أن هذه خطوة بالغة الأهمية وتخدم مصالح لبنان وإسرائيل، والمنطقة، والولايات المتحدة، معربًا عن أمله في انطلاقة "سريعة" للمباحثات حول الحدود البحرية.

وبخصوص الحدود البرية، تحدث بومبيو عن مباحثات منفصلة على مستوى الخبراء لحل مسائل عالقة بشأن الخط الأزرق الفاصل بين الجانبين اللذين يعدّان في حالة حرب.

هل يمكن فصل الحدودين البحرية والبرية؟ وما هي مقومات قوّة المفاوض اللبناني ؟

المرجع القانوني ورئيس منظمة "JUSTICIA" المحامي الدكتور ​بول مرقص​ يرى "ضرورة انطلاق لبنان في تثبيت ترسيم الحدود البحرية من خط الشاطئ، أي من الحدود البرية ومعالمها وهي الأساس في تثبيت ترسيم الخط البحري، فلا يمكن تثبيت الحدود البحرية دون الانطلاق من النقاط المحددة براً".

ويقول "للاقتصاد " : "لبنان خلافا لاسرائيل ، وقّع في العام 1982 اتفاقية البحار وانضم اليها في أواسط التسعينات وقت اصبحت نافذة، بينما اسرائيل لم تنضم اليها، لذا على المفاوض اللبناني التسلح بالمبادئ التي وردت في هذه الاتفاقية، وبالقواعد التي ترعى ترسيم الحدود البحرية، وعليه التمسّك بالنقاط الجغرافية التاريخية الموجودة على خط الشاطئ اللبناني منذ أكثر من نصف قرن، وهي معالم جغرافية وتعطي لبنان حقوقا في ​المياه​ البحرية وصولاً الى المنطقة الاقتصادية الخالصة التي بسبب الاتفاق الاسرائيلي القبرصي هُضمت فيها مناطق عائدة للبنان، ويُرجح استرجاعها بمقتضى المفاوضات رغم المصاعب التفاوضية المتمثلة تحديدا بنقطتي b1 و b2 في رأس الناقورة، حيث تسعى اسرائيل الى قضم نقاط في البلوكات الأخيرة العائدة للبنان عبر التلاعب بهاتين النقطتين والتذرّع بالاتفاق القبرصي الذي جرى بدون ايلاغ لبنان خلافاً للأصول المتفق عليها".

واذ يشدد مرقص على وجوب عدم التهاون في التفاوض مع الاسرائيليين خصوصا عندما تتعلق القضايا بمصالحهم الاستراتيجية، لأن المياه بالنسبة لهم ليست مصدر ثروات نفطية فحسب، بل مرتبطة بجوهر ديني وحياتي للاستمرار في المعيشة اليومية والوجودية للاسرائيليين وما يتوجسوّن منه لجهة شح المياه، يلفت الى اهمية توسيع الوفد اللبناني، لكن بخبرات تقنية ضرورية بعيدا عن الوجاهة والمصالح السياسية، لأن الوفد الاسرائيلي بتقديره سيكون شرسا في التفاوض وربما متعاليا في موضوع المطالب.

اتفاقية ​التجزئة

عشية انطلاقة المفاوضات، اعطى رئيس الجمهورية توجيهاته للوفد التقني المكلف بالتفاوض غير المباشر استنادا الى الاتفاق الاطار العملي للتفاوض حول ترسيم الحدود البحرية، على ان تبدأ المفاوضات على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برا التي نصت عليها اتفاقية بوليه نيوكومب عام 1923 والممتد بحرا استنادا الى تقنية خط الوسط من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة، وفقا لدراسة أعدتها قيادة الجيش اللبناني على أساس القانون الدولي.

وسبق ذلك اعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري في اول ​تشرين الاول​ الحالي التوّصل إلى اتفاق إطار لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، واعتبر أن الخطوة من شأنها أن تفضي إلى سداد ديون لبنان.

بالتأكيد ، هناك اهمية قصوى بالنسبة الى لبنان للبدء في هذه المفاوضات لأنه ثمة إمكانيّة كبيرة لوجود "مكمن مشترك" بين لبنان واسرائيل ​، ومن المعروف دولياً أنّه في حالة "المكامن الحدودية المشتركة"، يلجأ أصحاب الحقوق النفطيّة إلى عقد اتفاقية التجزئة(unitization agreement) حيث يتّفق الأطراف على تقاسم المكمن وفق معايير معيّنة.

وبناء للعقد المبرم على البلوك 9 بين ​لبنان وتحالف شركات "توتال" الفرنسية و"ايني" الإيطالية و"نوفاتيك" الروسية، في حالة "المكمن المشترك"، من حق الدولة اللبنانيّة اجراء التفاوض مع الدولة الأخرى. والشركات عبر الحدود تتفاوض أيضاً ولكن لا يتم اتخاذ أي قرار قبل موافقة ​مجلس الوزراء​.

بعض المصادر يفيد انه حتى مجرّد الحفر في تلك الآبار عامودياً في حقل " كاريش" فان الجانب الاسرائيلي قادر على التأثير على ثروة لبنان من الغاز في البلوك اللبناني رقم 9، وتحديداً في أحد مكامنه الممسوحة. وحتى التكوينات الجيولوجيّة الحاوية للغاز الطبيعي تحت سطح البحر، متواصلة في هذه المنطقة. وبالتالي ، يكفي حفر أي بئر بشكل عامودي للتأثير على المنطقة المحاذية.

الخلاف بين لبنان واسرائيل قديم منذ نشأة إسرائيل على ​الأراضي الفلسطينية​ عام 1948، والنزاع على ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط طويل ولكن فضّه له انعكاسات ايجابية ولاسيما اقتصادية ، فهل جاء موعد الترسيم بحرا وبعدها برّا في الوقت الصحيح ليخرج لبنان من طريق جهّنم ؟