لن يوّفر الانهيار الاقتصادي الزاحف في لبنان اي مرفق او مؤسسة بغياب التصدي الرادع له، واستفحال التناقض في الخطاب السياسي القائم الذي لا يقيم اي اعتبار لآلام الناس وحزنهم ووجعهم وجوعهم وقهرهم، لابل يمعن في تسريع ارسالهم الى الجحيم.

لم تعد المشكلة في لبنان محصورة في تصاعد عملة ​الدولار​، وفي ترصّد تقلبات الاسعار الجنونية التي لا ترحم الفقير والمحتاج بل مرتبطة بعقول فاسدة متربصّة لا تنسحب حتى تتأكد من انها دمرّت كل شيء. للأسف، لم يعد في لبنان اي صمام آمان. و​الصندوق الوطني​ للضمان الاجتماعي الذي يلعب هذا الدور اصبح مهددا بكل فروعه.

ما هي انعكاسات الازمة النقدية والاقتصادية على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟

ما هي الاجراءات التي قام بها للمحافظة على امواله؟

في خطوة لافتة، طلب الضمان من ​مصرف لبنان​ معاملة تعويضات ​نهاية الخدمة​ للموظفين والاجراء المسجلين في الصندوق بالطريقة نفسها التي اعتُمِدت مع أصحاب الودائع الصغيرة في ​المصارف​، إذ يجرى تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار بناءً على سعر 1515 ليرة للدولار الواحد، ثم يُعاد تحويلها إلى الليرة بسعر المنصة البالغ نحو 3900 ليرة للدولار الواحد. ما هي قانونية هذا الاجراء؟ وهل سيطال كل الاجراء والمستخدمين على كافة المستويات الذين سحبوا تعويضاتهم ام هناك معايير سيتم الاعتماد عليها؟

ابو ناصيف

يقول رئيس الديوان والمدير المالي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي شوقي ابو ناصيف لـ"الاقتصاد"، ان الازمة النقدية والاقتصادية فاجأت الجميع في توقيتها وفي سرعة تطورها، فالذي يمر به لبنان منذ ​تشرين الاول​ 2019، من ازمات الاقتصادية ونقدية وصحية وامنية متلاحقة هو غير مسبوق، لاسيما بتوالي وتزامن هذه الازمات؛ فالانهيار من شأنه ان يطال الكل دون استثناء، و​الضمان الاجتماعي​ هو جزء من هذا الكل، فامواله موجودة في ​المصارف التجارية​ وفي مصرف لبنان، وتقديماته تموّل من اشتراكات ​اصحاب العمل​ ومن مساهمة الدولة. و اصحاب العمل لم يعد بامكانهم تسديد الاشتراكات بانتظام كما كان يحصل سابقا، والدولة لم يعد بامكانها دفع مستحقات الصندوق، فهي متوقّفة اصلا، ومنذ اكثر من خمس سنوات عن تسديد مساهماتها والتي بلغت حوالي 4000 مليار ليرة لغاية نهاية العام 2019. و رغم كل ذلك استطعنا الصمود لغاية اليوم بوجه هذه التحديات ، فتقديماتنا ما زالت تدفع كالمعتاد، ومكاتبنا في جميع الاراضي اللبنانية مازالت مفتوحة وتقدم الخدمات بشكل طبيعي. هذه القدرة على الصمود محدودة ومرتبطة بتطوّر الازمة والاجراءات الواجب اتخاذها للمحافظة على اموال الضمان وعلى قدرته على الاستمرار بتقديماته. حماية الضمان الاجتماعي يجب ان تكون من اولويات اي خطة اقتصادية او نقدية او اي اتفاق بين ​صندوق النقد​ او غيره، فالازمة قد تطول، وبالتالي، لا يمكن ترك حوالي ثلث الشعب اللبناني دون اي تقديمات لاسيما في ظل ارتفاع ​كلفة المعيشة​ وتدني قيمة الاجور ".

ويشرح ابو ناصيف انه مع بدء الازمة المصرفية والنقدية الخطيرة، استشعرت ادارة الضمان بالخطرالآتي على اموال الصندوق وعلى استدامته المالية، لاسيما اموال فرع نهاية الخدمة المستثمرة في ​سندات الخزينة​ لآجال متوسطة وطويلة، وفي ودائع مجمدة في المصارف التجارية لمدة اقصاها سنة، فهذه الاموال هي تعويضات حوالي 600 الف مواطن وملاذهم الاخير لتامين شيخوخة محترمة في ظل عدم وجود نظام للتقاعد في لبنان. وعلى الفور تحركت الادارة باتجاه سلطة الوصاية ممثلة بوزير العمل الاستاذ كميل ابو سليمان لايجاد ​آلية​ او تشريع خاص يحمي اموال الصندوق وقدرته الشرائية من ما كان يتداول انذاك من اجراءات سوف تتخذ على حسابات المودعين (Haircut، Capital Control). اما بالنسبة لفرع المرض والامومة الذي يعاني اصلا من عجز نتيجة تخلّف الدولة عن تسديد متوجباتها، فكان الخوف الكبير من ​ارتفاع اسعار​ ​الادوية​ والمستلزمات الطبية ، وكلفة الاستشفاء، وبالتالي ارتفاع كلفة الفاتورة الصحية بشكل كبير مما سوف يزيد العجز بشكل كبير وخطير، وبالمقابل، كان علينا مراعاة الاوضاع الاقتصادية لاصحاب العمل نتيجة الازمات و​الكوارث​ المتلاحقة، لذلك، بدأنا العمل على 5 اتجاهات:

1- المحافظة على اموال الصندوق المستثمرة في سندات الخزينة والمصارف الخاصة من اي عملية اقتطاع .(Haircut, Capital control)

2- المحافظة على القيمة الشرائية لهذه الاموال وعلى تعويضات نهاية الخدمة في ظل ارتفاع سعر الصرف غير الرسمي للدولار وانعكاسه على تكاليف المعيشة.

3- الاستمرار بتقديمات المرض والامومة والسعي لعدم رفع كلفة الفاتورة الصحية من خلال استمرار مصرف لبنان دعم الادوية والمستلزمات الطبية.

4- تسهيل امور اصحاب العمل قدر الامكان لمساعدتهم على الاستمرار في اعمالهم ونشاطاتهم وعدم صرف العمال.

5- مطالبة الدولة بتسديد متوجباتها للصندوق التي فاقت اربعة الاف مليار ليرة .

بدأ العمل بشكل متوازي على هذه الاتجاهات الخمسة، مع الوزير كميل ابو سليمان الذي قام بالاتصالات اللازمة مع ​مجلس الوزراء​ و وصندوق النقد لايجاد آلية تحمي اموال الضمان والقيمة الشرائية لتعويضات نهاية الخدمة، ومن جهة ثانية، جاء دعم مصرف لبنان للقطاع الاستشفائي من من خلال دعم ​استيراد​ الادوية والمستلزمات الطبية، ليحد من هذه الازمة وليؤجل خطرانهيار القطاع الصحي باكمله والاجهزة الضامنة ، ومن ضمنها فرع ضمان المرض والامومة في الصندوق. على صعيد مساعدة اصحاب العمل، اقترح الوزير ابو سليمان بناء على انهاء مجلس ادارة الصندوق مرسوم تمديد براءة الذمة الذي صدر في شباط 2020، كما بدأ العمل بالتسهيلات التي اوجدها قانون ​الموازنة العامة​ للعام 2019 من خلال تخفيض زيادات التاخير على متاخرات الصندوق و تقسيطها لمدة خمس سنوات للحد من تفاقم هذه الازمة على اصحاب العمل.

بعد ​استقالة الحكومة​ وتشكيل حكومة جديدة استمر العمل مع وزيرة العمل السيدة لميا يمين التي تبنّت هذه التوّجهات وتابعت المساعي والاتصالات التي بدأها الوزير ابو سليمان، فتم تجديد الاعفاءات المذكورة بموجب قانون الموازنة العامة للعام 2020، وتم تمديد مفعول براءة الذمة لمرتين متتاليتين، واطلق من وزارة العمل مشروع التامين ضد ​البطالة​ التي كُلفت ​منظمة العمل​ باجراء الدراسات الاكتوارية والقانونية اللازمة لاطلاق هذا المشروع. وضمن هذا الاطار، عقدت عدة اجتماعات ولقاءات في وزارة العمل لمناقشة مشاريع قوانين وقضايا الضمان الاجتماعي التي اولتها وزيرة العمل عناية استثنائية ومتابعة يومية، توّجت هذه المساعي باجتماع عقد مع رئيس الحكومة الدكتور ​حسان دياب​ بحضور وزيرة العمل ونائب رئيس مجلس الادارة ومدير عام الصندوق والمدير المالي وتم البحث في هذه التوّجهات وبكيفية الحفاظ على مؤسسة الضمان الاجتماعي في هذه الظروف الصعبة. وتمت مطالبته بتسديد الدولة مستحقاتها للصندوق او على الاقل جزء منها. وفي سياق المتابعة، عُقد اجتماع مع ​وزير المالية​ خصص للبحث في موضوع تسديد ​ديون​ الدولة للصندوق، والسعي للمحافظة على امواله وعلى تعويضات نهاية الخدمة. ولا بد من الاشارة في هذا السياق الى دور الاتحاد العمالي العام الذي كان الداعم الاكبر في هذا المجال، والى المساعي التي قام بها الدكتور بشارة الاسمر مؤخرا وقبله نائب الرئيس ​حسن فقيه​.

قيمة التعويضات

وحول اعادة النظر بقيمة تعويضات نهاية الخدمة يوضح ابو ناصيف انه استتبعت الاجتماعات الذي عقدت مع رئيس الحكومة، ووزير المالية باجتماع عقد مع ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ ومدير عام الصندوق الدكتور محمد كركي و​رئيس الاتحاد العمالي العام​ الدكتور بشارة الاسمر، و تم طرح موضوع تحويل تعويضات نهاية الخدمة المقبوضة الى دولار الاميركي على اساس سعر الصرف الرسمي للمحافظة على القيمة الشرائية لهذه التعويضات، وقد رّحب الحاكم بهذه الفكرة وطلب دراسة مالية حول قيمة التعويضات المسحوبة منذ بداية العام وعدد الطلبات وغيرها... انجزنا هذه الدراسة وارسلناها بكتاب رسمي الى مصرف لبنان، وبدأ المصرف المركزي بمناقشة هذه الآلية وقد قطعت شوطا كبيرا، ونحن ما زلنا بانتظار صدور القرار اللازم من مصرف لبنان.

وعن المسار القانوني الواجب اعتماده للتنفيذ بدون قرار وزاري اوقانون عن ​مجلس النواب​ يقول ابو ناصيف: سبق واصدر مصرف لبنان عدة تعاميم بهذا الاطار ان كان لناحية دعم الادوية او ​النفط​ ومشتقاته او ​المواد الغذائية​، او صغار المودعين، وبالتالي، هذا الموضوع شبيه بالاجراءات التي اتخذت سابقا، ونعتقد انه ليس بحاجة الى موافقة من مجلس الوزراء او مجلس النواب.

وحول شمولية المضمونين كافة بالقرار لفت ابو ناصيف الى ان العمل جار لكي يطال جميع الذين سحبوا تعويضاتهم منذ بداية العام ، ولم يتمكنوا من تحويله الى دولار اميركي على سعر الصرف الرسمي. فهذه التعويضات هي مدخرات هؤلاء المضمونين سواء كانت مليون او عشرة ملايين او مئة مليون؛ فالبعض سحب تعويضه بداعي ترك العمل لكي يستمر بتامين معيشته ومعيشة عائلته بعدما اصبح بدون مدخول، والبعض الاخر سحب تعويضه بداعي بلوغ السن القانونية ، وبالتالي، اصبح بعمر لم يعد يسمح له بالعمل او بايجاد فرصة عمل تناسب عمره ، واصبح هذا التعويض الملاذ الآخير لتامين عيش كريم في شيخوخته. وبغض النظر عن قيمة التعويض، نسعى باتجاه دعم كامل التعويضات مهما بلغت قيمتها.

الازمة النقدية بدات بعد 18 تشرين الاول 2019 ولغاية نهاية العام كانت امكانية تحويل التعويضات الى دولار اميركي قائمة ، وقد استفاد عدد كبير من هذه الامكانية . وبالتالي، سوف ندرس الموضوع اذا كان بالامكان ضم هذه الشريحة اي الذين سحبوا تعويضاتهم اعتبارا من 18 تشرين الاول 2019 الى الباقين.

ألآلية التطبيقية والتقصي

ويشير الى حتمية ايجاد ضوابط للتطبيق . وسوف تطال هذه العملية فقط الذين سحبوا تعويضاتهم ولم يتمكنوا من تحويلها الى دولار اميركي. فثمة جزء استطاع الاستفادة من هذا الموضوع لاسيما مستخدمي المصارف الذين استفادوا من تسهيلات مصرفية اعطيت لهم.

فقاعدة معلومات الصندوق تتضمن اسماء المضمونين وقيمة التعويض وارقام الشيكات وتاريخ قبضها ، وبالتالي، في حال اقرار هذه الخطوة سوف يتم التواصل مع مصرف لبنان والمصارف وتزويدهم بهذه المعلومات لملاحقة هذه الشيكات، والتاكّد من انها لم تحوّل الى دولار اميركي على سعر الصرف الرسمي.

اما عن جدوى تطبيق هذه العملية على صندوق الضمان فيؤكد ابو ناصيف ان الضمان الاجتماعي مسؤول عن مضمونيه وعن تعويضاتهم والمحافظة عليها قدر الامكان، انما ​الازمة الاقتصادية​ والنقدية التي مرت بها البلاد هي ازمة غير مسبوقة في تاريخ لبنان. وزاد الطين بلة ازمة تفشي فيروس كورونا، وانفجار المرفأ، فكل هذه الامور غير المتوقعة ادت الى ما ادت عليه، لذلك نسعى بكامل ما اتينا من قوة وعلى كافة الاصعدة والاتجاهات الى المحافظة، على هذه المؤسسة وعلى تقديماتها وعلى تعويضات المضمونين. المردود هو مردود معنوي علينا كافراد ومسؤولين بأنه استطعنا حماية اموال المضمونين ولو حتى بجزء بسيط منها، ومردود مالي للمضمونين الذين سحبوا تعويضاتهم . وقد لمسنا فور شيوع الخبر الاثر الايجابي على هولاء الاشخاص، وترحيبهم بهذه الخطوة، كما له مردود اقتصادي على صعيد ​زيادة الانفاق​ وتحريك عجلة الدورة الاقتصادية.

وفي غضون ذلك، كيف ستكون تداعيات رفع الدعم عن الادوية والمستلزمات الطبية التي يتم التداول بها موخرا؟

وهنا، يجزم ابو ناصيف ان هذا سيشكّل الضربة القاضية على فرع ضمان المرض والامومة وعلى الاجهزة الضامنة الاخرى، وعلى القطاع الاستشفائي برمته، وعلى المواطن الذي لن يعد بامكانه شراء الادوية، سيما العلاجات المكلفة، فلا يمكن لفرع المرض والامومة الاستمرار في تقديماته، وهو اصلا يعاني من عجز كبير، في حال ارتفاع كلفة الفاتورة الصحية تبعا لارتفاع ​سعر صرف الدولار​. فامكانية زيادة الاشتراكات او ​زيادة الاجور​ هي معدومة في ظل الازمة الاقتصادية، لذلك نحذر من هذه الخطوة. فالدواء والاستشفاء هما اولوية، حتى على الغذاء، فبامكان الانسان الاستمرار في العيش بالحد الادنى من الغذاء، انما لا يمكنه الاستمرار بدون علاج او استشفاء.

مصير صندوق الضمان الى اين؟

ويعتبر ابو ناصيف ان مستقبل البلد برمته هو على المحك، و كذلك مستقبل الصندوق الوطني وكافة الموسسات الاخرى، ما لم يبادر المعنيون فورا الى وضع خطة شاملة للخروج من الازمة باقل ضرر ممكن. وهذا يتطلب خطة اقتصادية ونقدية متكاملة، وخطة طريق واضحة لانقاذ البلد ومؤسساته. الضمان الاجتماعي وامواله واستمراريته يجب ان يكون جزء ا اساسيا من اي خطة من هذا النوع، كما يجب ان يكون اولوية لدى الحكومة والجهات المعنية بالخطة الاقتصادية، فهو يمثّل الأمن الاجتماعي في لبنان، واستمراريته ضرورة ملّحة لاسيما في السنوات القادمة التي سوف تكون سنوات صعبة على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي لحين الخروج من هذه الازمة. فلا بد من تأمين استمرارية تقديمات الضمان الاجتماعي ان كان على صعيد الضمان الصحي، او التعويضات العائلية او نهاية الخدمة لحوالي ثلث الشعب اللبناني لكفالة الحد الادنى من العيش الكريم.

في ضوء انكشاف عقم السياسات الاجتماعية والصحية، واستهتار الحكومات المتعاقبة بدور الصندوق الوطني للضمان والتمادي بسلب امواله كيف ستتأمن استمراريته؟