قريبا تبدأ المستشفيات اعتماد سعر صرف ​الدولار​ 3950 ليرة، بدلاً من السعر الرسمي 1500 ليرة، وهذا يعني مضاعفة فاتورة الاستشفاء ثلاث مرات، بحيث تعجز أكثرية المواطنين عن الدخول إلى المستشفيات، وكذلك سيعني إفلاس الصناديق الضامنة، وخصوصا "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي"، بالإضافة إلى مضاعفة سعر بوليصة ​التأمين​ ثلاث مرات.

نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون سارع إلى التوضيح أن رفع تعرفة الاستشفاء لن تشمل الصناديق الضامنة، أما وزير الصحة فأكد اأن ​سعر الدولار​ سيبقى في المستشفيات، وكذلك بالنسبة للدواء على سعره الرسمي.

كلام مطمئن إلى حد ما ولكن من يضمنه، فالمستشفيات لا يمكن أن تستمر بشراء مسلتزماتها بدولار مرتفع لتبيعها إلى المرضى بأسعار منخفضة، كما أن كلام الوزير عمومي وغير نهائي في ظل الحديث المتزايد عن قرب نفاد الدولارات من ​مصرف لبنان​، والاضطرار إلى رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية.

وهكذا يتأكد يوماً بعد يوم، أن رفع الدعم عن ​المحروقات​ سيتم قبل نهاية العام، وتشير الحسابات الأولية إلى أن سعر ​صفيحة البنزين​ سيبلغ 70 ألف ليرة، و​صفيحة المازوت​ 50 ألف ليرة، وهذا يعني شبه شلل في ​حركة النقل​ للمواطنين، وارتفاع في كل السلع من دون استثناء بسبب ارتفاع تكلفة النقل. ومن جهة ثانية، سترتفع بشكل خطير فاتورة المولدات في ظل استمرار تقنين كهرباء الدولة المزمن.

أسعار الدواء لن تكون بمنأى عن تداعيات رفع الدعم، إذ ستتضاعف 5 أو 6 مرات، وهذا يعني أن الكثير من المرضى سيموتون لتعذر شراء ​الأدوية​، وأن الضمان سيفلس.

إذا توقف الدعم عن السلع الاستراتيجية الثلاثة، أي المحروقات والدواء و​القمح​، يبدو أن سعر ​الرغيف​ الذي سيتضاعف 5 مرات، سيكون الاقل ضرراً على معيشة المواطن، ولكنه ضرر بالغ أيضاً.

السلة الغذائية المدعومة من مصرف لبنان عبر وزارة الاقتصاد ظلت نظرية لم يلمسها المواطنون إلا بنسبة قليلة للغاية، وتبين أن ​التجار​ والمستوردين هم الذين استفادوا منها بشراء دولار رخيص وبيع السلع بأسعار محسوبة على دولار السوق السوداء.

لسنا ذاهبين إلى جهنم، إننا في داخلها، فكيف الخروج منها؟

السلطة السياسية غائبة تماما، والوزارات المعنية لا تملك سوى إصدار بيانات النفي أو الإدانة والاستنكار، ولعلها أكثر مرة يشعر المواطن أنه في مكان ودولته في مكان آخر. هذا إذا كانت موجودة.

معاناة الناس واقعية ووجود الدولة افتراضي.

ما علينا من المقارنة بين العوالم الحقيقية والافتراضية، ولنذهب إلى طريقة المعالجة، أولا من خلال وقف الانهيار، وثانياً بالعودة إلى النهوض.

المطلوب بشكل عاجل، تعزيز موجودات مصرف لبنان من ​العملات الاجنبية​ و​السيولة​ للحفاظ على احتياطه، فلا يستنزف في عمليات الدعم، ومن أجل تثبيت الاستقرار النقدي ولجم الارتفاع المستمر للدولار وفلتانه. وهذا يحتاج إلى ضخ 10 مليارات دولار فورا في صناديق المصرف، والمصدر الوحيد الذي تعرفه السلطة السياسية هو "​صندوق النقد الدولي​"، وقد تفاوضت الحكومة معه مطولا، ولم تصل إلى نتيجة، لأن ممثلي الصندوق وجدوا أنفسهم أم عائقين كبيرين: الاولأ، انقسام الموقف اللبناني؛ والثاني، استمرار الحظر الدولي على لبنان.

لو حصلت أعجوبة وتشكلت حكومة جديدة في لبنان، فإنها ستذهب إلى الصندوق مجددا، فهل سيمنحها ما تريده؟ بالتأكيد لا. لأنه يعرف أن المليارات التي سيقدمها ستتبخر سريعا في الإنفاق على دعم السلع وهذا أمر جيد، ولكن أيضا على جهاز الدولة المتضخم، وعلى المصاريف غير المسؤولة، وعلى هدر ​الكهرباء​ وغيرها، أي باختصار على منظومة ​الفساد​ داخل الدولة.

ومن ناحية ثانية سنعود إلى دفتر شروط "صندوق النقد" للحصول على القروص، والبند الأول فيه تحرير سعر صرف الليرة، أي أن دولار الـ 8 آلاف ليرة سيصبح واقعا قانونيا. وما ذكرناه آنفا عن تفلت أسعار السلع كلها سيصير محتما.

المصدر الثاني الممكن هو ​المساعدات​ الشقيقة والصديقة وهي مرهونة بالرغبات السياسية، وقد شاهدنا كيف طارت الحكومة نتيجة احتدام النزاعات الاقليمية والدولية على أرضنا، وبالتالي لا مساعدات قريبا.

مطلب استعادة الاموال المنهوبة، والأرباح المحققة من الهندسات المالية الملتبسة (على أقل تقدير)، صار مجرد أغنية يرفعها الثوار في الميادين، فبعد كباش 17 تشرين، تبين أن الدولة العميقة (أي منظومة الفساد واللصوصية) أقوى من الشعب، وخصوصا إذا تلقت دعم ومؤازرة دويلة ​السلاح​ داخل الدولة.

لا حلول في الأفق وبالتالي لا خيار أمام المواطن، سيذهب في الصباح إلى الفرن ليعجز عن شراء ربطة خبز بـ 10 آلاف ليرة، ولن يتمكن من الذهاب إلى عمله بسيارته أو بالسرفيس لأنه لا يملك الكلفة، ولن يستطيع الدخول إلى السوبرماركت كي يشتري ما يلبي حاجاته البدائية (أي الأكل)، وإذ مرض فلن يشتري الدواء فيموت.. وإن لم يمت لن يبقى من خيار سوى الانتحار.

هذه هي ​المجاعة​، والمجاعة تتطلب ثورة جياع (عن جد هذه المرة)، تسقط هذه السلطة الفاشلة عن بكرة أبيها.

الأديان تعتبر الانتحار كفرا، ولو كان المنتحر مؤمنا وعاملا يعيش من عرق جبينه وجنى يديه.

المواطن ليس كافرا.. بس الدولة كافرة.