النقاش الجاري حول طبيعة وشكل الحكومة الجديدة، وهل تكون حكومة مستقلين بالكامل، او حكومة اختصاصيين مسيسين، يضمر مسألة رئيسية تتعلق بمدى ملائمة النظام السياسي القائم، والذي انبثق عن اتفاق الطائف، لانقاذ لبنان من الانهيار ال​اقتصاد​ي وال​مالي​، والبدء بعملية إصلاح شاملة تنهض بالبلد مجددا.

المبادرة التي أطلقتها ​فرنسا​ رافقها حديث صريح عن ضرورة إيجاد عقد سياسي جديد. قالها ​الرئيس الفرنسي​ ​ايمانويل ماكرون​ في زيارته الاولى، ولكنه لم يكررها في الزيارة الثانية، والتي خصصها للحديث عن الخطوة التنفيذية الاولى على طريق الإنقاذ واعادة النهوض، اي تشكيل حكومة جديدة.

من جملة تصريحات وخطابات ماكرون خلال الزيارتين نستخلص ان المنظومة السياسية الحالية اوصلت البلد الى الانهيار، والمطلوب اولا الاطاحة بهذه المنظومة، ولان انتفاضة 17 تشرين لم تقم بذلك، لاسباب شتى لا مجال لذكرها هنا، تقتضي الواقعية التعامل مع هذه المنظومة، مع ممارسة الضغوط الملائمة عليها، لكي تعمل بنفسها على ازالة عناصر قوتها، والسير على طريق إلغاء الذات . وهذا ما تفترضه الورقة الفرنسية التي لو طبقت بالكامل لاوجدت بناء قانونيا – اقتصاديا – ماليا يقضي عمليا على هذه المنظومة، او على الاقل يقلم اظافرها نهائيا.

يكفي ان نذكر مثالا واحدا من تلك الورقة وهو عن ​الكهرباء​، فإذا ما قيض للبنان اخيرا ان ينشىء هيئة ناظمة للقطاع مستقلة تماما عن الأهواء السياسية، تنفذ خطة موضوعية وعلمية لبناء المعامل وشبكات التوزيع، بعيدا عن الحسابات والمصالح السياسية والطائفية ، نكون قد خطونا خطوة جبارة على طريق النهوض.

تجربة الطائف

المنظومة الحاكمة (والمعارضة أيضا) صنعها اتفاق الطائف، الذي لم يكن حاكمًا على المستوى السياسي فقط من خلال مبدأ تقاسم السلطة بين الطوائف وزعمائها، وإنما كان حاكمًا أيضًا على المستوى الاقتصادي، منذ مرحلة الوصاية ال​سورية​ وإعادة الإعمار. وقد اوصل النموذج الاقتصادي والمالي لجماعة الطائف لبنان الى الانهيار الحالي، ومن الطبيعي لاي عاقل يريد حلا للازمة ان يبحث عن نظام بديل.

اتفاق الطائف الذي وضع حدا للحرب الاهلية كان تسوية ​اميركية​ – سعودية – سورية، اعطى للنظام السوري حق الوصاية على لبنان الذي دخل في عملية اعادة الإعمار المدرة للأموال تحت رعايته وحمايته وكانت ​السعودية​ الممول الابرز عن طريق الدعم الاقتصادي و​الاستثمارات​ الطائلة التي قامت بها، والتي اوكلت ادارتها للرئيس الشهيد رفيق الحريري.

كرست مرحلة الوصاية السورية نظاما سياسيا – اقتصاديا – ماليا مأزوما بنيويا، هو عبارة عن اقتصاد ريعي غير منتج ، فقد اعتمد لبنان خلال تلك الفترة على ​رؤوس الأموال​ المتدفقة إلى مصارفه عبر القنوات الخارجية، كتحويلات المغتربين، و​الاستثمار الأجنبي المباشر​، والاقتراض من الخارج. وقد حقق ​النظام السوري​ عبر ممثليه في لبنان أرباحًا مالية ضخمة مقابل الحماية التي منحها للزعماء، عبر خلق شبكات فساد واحتكارات تشترك فيها مع تجار و​رجال أعمال​ وسياسيين لبنانيين.

كان ​الفساد​ والسياسات الاقتصادية والمالية غير الملائمة، طوال عقود ثلاثة من الزمن، هي العمود الفقري لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني التي تم تقاسم السلطة ومقدرات الدولة على أساسها منذ ما بعد الطائف.

في العام 2005 سقطت التسوية السياسية الاميركية- السعودية – السورية، ولكن المنظومة الحاكمة بقيت في مكانها مع دخول بعض الأطراف اليها، فتولدت الأزمات تكرارا، واحتاج لبنان الى تسويات جزئية لكي يستمر مثل الـ س س، واتفاق الدوحة، لاعادة ترتيب ​البيت​ السياسي، ولكن على المستوى الاقتصادي المالي لم يتغير شيء.

بداية النهاية

يقول الباحث و​الخبير الاقتصادي​ سليمان كريمة في دراسة اعدها في أذار الماضي انه مع بدء الازمة السورية في العام 2011، بدأت القنوات الخارجية بالجفاف واحدة تلو الأخرى حتى وصل العجز في ميزان المدفوعات مستويات لم يبلغها حتى في سنوات الحرب الأهلية، وذلك بسبب تقلص مصادر تدفق الأموال الخارجية، نتيجة الانخفاض الهائل في صادرات السلع والخدمات، وتقلص الاستثمار الأجنبي وخصوصا الخليجي منه، وتوقف القروض الدولية التي كان لبنانتلقاها في السابق،من خلال مؤتمرات ​باريس​ 1 و2 و3 ،واشتهر لبنان بنظام تحاصصي-ريعي، ضخم ​الثروات​ الريعية والعمل غير المنتج، وعطل ​النمو الاقتصادي​، كما عقَّد، في نفس الوقت، إمكانية تنفيذ سياسات اقتصادية جديدة من شأنها إخراج الاقتصاد من مأزقه الذي يراوح فيه لعقود ،حيث تسبب الهدر في قطاع الكهرباء وحده، على سبيل المثال، بخسائر تعادل 40% من إجمالي ​الدين العام​، أي ما يقارب الـ37 مليار دولار أميركي.

أما على مستوى الفساد، فقد تراجع لبنان من المرتبة 63 (من أصل 175) عام (2006) إلى المرتبة 143 في عام (2017) وفقًا لمؤشر مدركات الفساد. كما اعتَبر مؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي البيئة الاقتصادية للبنان كثاني أسوأ بيئة في العالم من أصل 144 دولة في عام (2015)، وذلك بسبب مستوى الدين العام المرتفع (الأعلى بالنسبة لإجمالي الدين العام في العالم سنة 2006)، وبسبب العجزين الكبيرين في ​الحسابات المالية​ والجارية، بالإضافة إلى نظام مصرفي كبير واقتصاد مربوط بالدولار الأميركي.

النهاية

نهاية هذا النموذج الاقتصادي المشوه حصلت مع اندلاع أزمة سياسية اخرى من سلسلة أزمات لبنان وتمثلت بانسحاب المملكة العربية السعودية من لبنان نهائيا، اي من رعاية اتفاق الطائف عمليا، من خلال الطلب الى الرئيس سعد الحريري ​استقالة الحكومة​، وهذا ما فعله في العام 2017، ثم تراجع عن الاستقالة بعد تدخل فرنسي.

تراجعت السعودية قليلا ولكنها اتخذت قرارها النهائي بمقاطعة لبنان.

بدأت الرساميل والودائع بالهروب من لبنان منذ العام 2017، واستمرت لعامين. وبعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين تم تهريب ما تبقى من ثروات، ووقع البلد في محظور انعدام ​السيولة​، وانكشف ​القطاع المصرفي​، وانفضحت خسائر المصرف المركزي. وكانت النتيجة الحتمية لذلك سقوط مدو لليرة.

مؤتمر سيدر

سبق ذلك محاولة فرنسية لتجنيب لبنان هذا السيناريو، فالمبادرة الفرنسية للإنقاذ لم تبدأ بعد انفجار ​مرفأ بيروت​ وزيارة الرئيس ماكرون، بل قبل ذلك بكثير، وتحديدا بعد اعادة الحريري الى سدة رئاسة الحكومة في العام 2019، وليس من قبيل الصدفة ان تبدأ بالشق الاقتصادي، فكان مؤتمر سيدر ووعود بـ 11 مليار دولار كقروض ميسرة لاعادة تأهيل كامل البنى التحتية. ولكن فرنسا لم تشأ أن يكون هذا المؤتمر حلقة في سلسلة مؤتمرات باريس السابقة، التي كانت تمول نظام الطائف، وعلى العكس ارداته انقطاعا عنها، لأنها وضعت على الطبقة السياسية شروطا قاسية للحصول على الاموال، ويعني تطبيق هذه الشروط قطيعة تامة مع النموذج الاقتصادي لما بعد الطائف، وتحديدا لمرحلة الوصاية السورية.

تقاعست جماعة الطائف عن تطبيق أي شيء من شروط سيدر، لأنه بكل بساطة يلغي امتيازاتها وتحكمها بمفاصل الاقتصاد والقطاعات الحيوية، وليس قطاع الكهرباء على أهميته، سوى مثال صغير على ذلك.

الورقة الفرنسية

ان الورقة الفرنسية المقترحة لوقف الانهيار اللبناني والتحضير لاعادة النهوض ، ترقى الى مستوى عقد تأسيسي اقتصادي مالي جديد ، سيكون بديلا عن اتفاق الطائف القديم بشقه الاقتصادي –المالي ، نظريا وعمليا ، وتحديدا ما مارسته السلطة منذ العام 1990 وحتى اليوم. أما الشق السياسي من الطائف فيترك لحوار وطني قد يعقد في فرنسا إذا توفرت الظروف المناسبة له .، لينتج عقدا سياسيا جديدا.

الطائف الاقتصادي الجديد لا يحتمل التأجيل ، لان لبنان في قعر الهاوية بالفعل. وإذا كانت الطبقة السياسية التي تسببت بالازمات الاقتصادية المزمنة، تجمع على عناوين تغيير النموذج الاقتصادي السائد. وتتفق أيضا على ضرورة إجراء إصلاحات جذرية من أجل معالجة الأزمات، فلماذا التأخير؟ وإذا كان ​الحراك الشعبي​ نادى ايضا بالتغيير الجذري في أسس الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج ومستدام، فلماذا الانتظار والتأجيل؟

الطائف الاقتصادي

في الطريق الى طائف اقتصادي جديد، ثمة إجراءات عاجلة يجب الشروع بها، تمهد له، وكلها موجودة بشكل او باخر في الورقة الفرنسية، أو في اوراق وخطط أخرى سبق طرحها من قبل خبراء اقتصاد وهيئات ومنظمات محلية ودولية متخصصة. لذا يجب البدء فورا بإجراء ​الإصلاحات الاقتصادية​ والمالية والإدارية والقضائية التي تتطلبها عملية التحول، والمباشرة بوضع آليات تفكيك شبكات الفساد والكتل الاحتكارية في أسواق الأولويات، للتمكن من تغيير الثقافة الزبائنية المترسّخة في مؤسسات الدولة.

كذلك يجب استعادة سمعة وسلامة ​المصارف اللبنانية​ المتهاوية، والتي كانت تشكل إلى جانب ​قطاع الخدمات​ حوالي 70 % من ​الدخل القومي​ للبلاد وإعادة توجيهها نحو دور إيجابي في الاقتصاد.

كما ينبغي تأمين الموارد المالية اللازمة للانتقال من الريع إلى الإنتاج من غير اللجوء إلى الاستدانة وفق النموذج السابق، ومن غير فرض مزيد من الضرائب على الشرائح الفقيرة أو إلغاء الإعفاءات الضريبية على القيمة المضافة للسلع الأساسية والغذائية أو حتى إلغاء الدعم على الكهرباء و​الوقود​، وخصوصًا في ظل الظروف المعيشية السائدة.

والاهم من كل ذلك إصلاح الجهاز القضائي وتقوية ديوان المحاسبة من أجل استعادة ​الأموال المنهوبة​ والمهربة التي من الممكن أن تساعد كثيرا في تمويل عملية التحول والنهوض.كما تقوية القضاء وتكريس استقلاليته يعزز المناخ الاستثماري لجذب ​الاستثمارات الأجنبية المباشرة​ التي ستحتاجها القطاعات الإنتاجية الجديدة، من أجل تخفيف اللجوء للاستدانة والاقتراض مجددًا من أجل عملية نهوض فعلية ومستدامة.