هل وقع الخلاف بين البنك المركزي و"جمعية ​المصارف​"؟ سؤال يُطرح هذه الأيام نتيجة صدور التعميم رقم 154، وما يحكى عن تحفظات قوية لدى المصارف على تطبيقه بعد أن كانت قد رحّبت به في البداية. كما قيل إن ​جمعية المصارف​ وجّهت كتاباً إلى المركزي يتضمن مجموعة أسئلة تفصيلية عن التعميم. هذا ظاهرياً، أما عمليا فقد قيل إن الجمعية هددت بأنها ستلجأ إلى الطعن في التعميم.

سبق لموقع "الاقتصاد" أن عالج موضوع التعميم 154 بعدة مقالات، وموضوعنا اليوم لا يتعلق بالتعميم حصرا، بل بخلفيات التباين بين هاتين الجهتين المصرفيتين.

بداية الجواب، نجدها في كلام لافت لحاكم البنك المركزي رياض سلامة في حديث إلى صحيفة "فاينانشال ​تايمز" إذا أكد أنه سينحاز إلى ​الحكومة​ في المفاوضات مع ​"​صندوق النقد الدولي​"​.

ونفى سلامة في حديث إلى صحيفة "فاينانشال ​تايمز"، نيته بعرقلة العلاقة بين ​لبنان​ و"صندوق النقد الدولي"، قائلاً: "بالنسبة للمستقبل، سنعمل على مواءمة موقفنا مع موقف الحكومة حتى لو كانت هناك خسائر".

وسبق للحاكم أن نفى في حديث لـ "سي أن بي سي" نيته الاستقالة، مؤكدا أن لديه استراتيجية للخروج من الأزمة وإعادة الاستقرار إلى السوق النقدي.

الكلمة السحرية هي "الخسائر"، ويتبعها بالتأكيد سؤال عن من سيتحملها، وكأن سلامة يرد على المصارف التي تمتنع عن إعادة الرسملة، من خلال استرداد أموال محوّلة إلى الخارج، يعرف سلامة أنها موجودة، لأنها في الغالب أرباح حققتها البنوك من الهندسات المالية. وقد وضع حاكم المركزي إطارا قانونيا لطيفاً لهذا الاسترداد عبر التعميم 154، واستخدم تعبير "حث"، وليس إلزام. ولكن يبدو أن بعض الصقور في "جمعية المصارف" يخشون أن يكون الحث أول غيث الاجراءات الصارمة في استراتيجية الحاكم الجديدة، تطبيقاً لقانون النقد والتسليف، وهم يرفضون الأمر بالمطلق.

سلامة متمسك بالمفاوضات مع "صندوق النقد الدولي"، أما جمعية المصارف فتريد تجنب توصيات الصندوق أو املاءاته، وأولها إعادة هيكلة ​القطاع المصرفي​، الذي وعلى الرغم من كل المقالات الانشائية والشعرية، يعرف الجميع أنه متعثر، بسبب تهريب الرساميل إلى الخارج.

الحاكم حذر من أن الأمور في لبنان وصلت إلى الخط الأحمر، أكد أن احتياطي مصرف لبنان من ​العملات​ الأجنبية منخفضة للغاية لدرجة أنه لا يمكنه توفير الدولارات إلا لدعم ​الواردات​ الحيوية مثل ​القمح​ والدواء والمحروقات، حتى نهاية العام.

وعليه، فإنه يتوجب ضخ ​السيولة​ من العملات الأجنبية في السوق اللبنانية، وهذا من واجبات القطاع المصرفي.

وعلى جانب آخر، برز خبر هام عن زيارة وفد رفيع من "جمعية المصارف" إلى ​فرنسا​، بالتزامن مع حديث متكرر عن نية فرنسية بإزاحة سلامة من موقعه، بعد إجراء التدقيق الجنائي في حسابات المركزي. وذهبت ​الشائعات​ إلى تسمية بديل سلامة وهو المصرفي اللبناني الفرنسي ​سمير عساف​، الذي كان مديرا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما كان مصرفيا. واليوم يحتل عساف موقع مستشار الرئيس للشؤون المالية.

البعض اعتبر أن تصريحات سلامة الأخيرة، عدا عن التعميم 154، هي محاولة استلحاق نفسه، وحماية موقعه.

فيما اللبنانيون ليسوا معنيين بمحاكمة النوايا، والمهم بالنسبة لهم انقاذ ما يمكن إنقاذه من استقرار نقدي، وتجنب ​المجاعة​ وانقطاع الدواء وتوحش ​أسعار المحروقات​، إذا استنفد المركزي كل امكانات دعم هذه القطاعات.

المعلومات تفيد أن وفد "جمعية المصارف" سعى في فرنسا إلى تسويق خطته الخاصة والتي تتمثل بإجبار الدولة اللبنانية على تسديد ديونها بالكامل، بعد أن تكون قد استدانت ما يتوجب من "صندوق النقد الدولي"، وهذا يعني رفض إعادة جدولة ​الديون​ العائدة للمصارف. بالإضافة إلى ذلك، عرض وفد الجمعية اقتراح إنشاء صندوق لادارة ممتلكات الدولة، وجرى الحديث عن نحو 1.1 مليار متر مربع من الأراضي التابعة للدولة (وفقا لمسح أعدته وزارة المالية) غير مستخدمة أو مستخدمة بشكل سيء، وتكون مهمة الصندوق استثمار هذه الاراضي مقابل تأمين سيولة للدولة اللبنانية تقدر بـ 40 مليار دولار.

وهنا يبرز سؤال: كيف تعجز المصارف عن تأمين السيولة بزيادة رساميلها، ثم تقترح أنها ستؤمن 40 مليار دولار؟

الخلاف واضح إذا بين رؤيتين لتوزيع الخسائر، وتأمين السيولة، ووقف الانهيار النقدي، وإعادة إنعاش الاقتصاد.

حاكم المركزي محق بدعوته المصارف إلى استعادة الأموال المحولة تحت طائلة الخروج من السوق، والمصارف تبحث عن حل آخر يجنبها كأس إعادة أرباح حققتها نتيجة إدارة مالية سيئة سابقة للمال العام.

لجوء الطرفين إلى فرنسا للتحكيم هو انتقال غير محمود إلى السياسة، والسياسة في لبنان تفسد كل شيء. سبق وأفسدت نظامه المالي والاقتصادي ، واليوم قد تفسد آخر محاولات انقاذه.