تقول قصيدة أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر...". نحن شعب يريد الحياة، فهل سيستجيب القدر؟ وهل سينجلي الليل؟ وهل سينكسر القيد؟

لقد اجتاحنا الوباء، وغمرتنا ​الأزمة الاقتصادية​ – الاجتماعية، وطمرنا ​الفساد​ وتداعياته. لقد خسرنا أهل وأحباء وأصدقاء، وانتزع منا جنى العمر في ثوانٍ، كما تدمر جزء كبير من تاريخنا وتراثنا الذي كنا سنورثه للأجيال القادمة. لقد خيم الانهيار والخراب والموت على لبناننا! ورغم ذلك حافظنا على إيجابيتنا المعهودة، التي نقاتل من خلالها أقسى الظروف، ونواجه أشد الصعاب، ونهزم أقوى الضغوط. والدليل، المحلات والمؤسسات والمطاعم والحانات المتضررة من جراء الانفجار، والتي قررت النهوض مجددا، وفتح أبوابها أمام الزبائن والرواد، لتثبت بذلك أن رغبة الحياة أقوى من الموت، وأن الأمل سيتغلب في النهاية على الظلم.

من الصعب نسيان ما حصل، ومن الصعب تخطيه؛ فنحن لن ننسى، لن نسامح، ولن نستسلم أبدا، لكن أملنا بغد أفضل سيبقى موجودا رغم كل الخراب والفوضى والأزمات المحيطة بنا من كل الجهات.

"Mayrig"... نقطة بيضاء في محيط يتغلب عليه السواد!

لقد تدمر مطعم "Mayrig" الموجود في منطقة الجميزة، بالكامل، من جراء عصف الانفجار. كما جرح فيه عدد من الموظفين، ما زال بعضهم يتلقى العناية الطبية الى حد اليوم. ولكن رغم كل ما حصل، أعاد فتح أبوابه الأسبوع الماضي، ليرحّب مجددا بالزبائن على الشرفة فقط، وليعيد إطلاق خدمة التوصيل والـ"take away".

كماكيان

كان لموقع "الاقتصاد" مقابلة حصرية مع مؤسسة وصاحبة مطعم "Mayrig"، ألين كماكيان، التي أكدت أن "المطعم تدمر بالكامل، وكذلك الأمر بالنسبة الى المكاتب والمطبخ. كما سقط 25 جريحا من فريق العمل، ما زال 5 منهم تحت المراقبة الطبية، ونتمنى لهم الشفاء العاجل".

وأضافت: "لقد صممنا على إعادة افتتاح "Mayrig" من أجل هدف واحد؛ وهو إعطاء الأمل للناس. فنحن مصرون على العودة، ولن يوقفنا انفجار، أو أي كارثة أخرى".

وبالنسبة الى التمويل، لفتت كماكيان، الى أن "بعض الأصدقاء قدموا المساعدة لتأمين الأموال اللازمة، من أجل القيام بعدد محدود من عمليات ترميم المطعم، ومنازل الموظفين أيضا؛ حيث أن 30 موظفا خسروا منازلهم بفعل الانفجار". وقالت: "لقد حصلنا على التمويل من "GoFundMe"، ومن زبائن "Mayrig"، وبعض الأصدقاء، لكي نقوم بالأعمال الأساسية خلال المرحلة الأولى، من أجل إعادة فتح أبوابنا؛ فقد عمدنا الى ترميم الأبواب والنوافذ في منازل الموظفين، بالإضافة الى المطبخ والحمامات في "Mayrig"، وطبعا الشرفة التي نستقبل فيها الزبائن".

وتابعت كماكيان قائلة: "فكرنا في الانطلاق من مكان ما على الأقل، وبالتالي افتتحنا الـ"terrasse" فقط الى حد الآن، لأن المطعم الداخلي ما زال بحاجة الى الكثير من الترميم؛ فمكيفات الهواء معطلة، والأرضية متصدعة، و​الألمنيوم​ محطم،... لا أعتقد أننا سنتمكن من الإنتهاء من الأعمال كافة قبل حلول فصل الشتاء، بسبب حاجتنا الى تمويل ضخم لتحقيق هذه الغاية. فأنا أتمنى من كل قلبي العودة الى نشاطنا الطبيعي، لكن هذا الأمر مستحيل للأسف، في ظل الإمكانيات المتوفرة في الوقت الحاضر".

صاحبة معطم "Mayrig": أعطينا أملا جديدا للناس...

كما لفتت الى أنه "بعد إعادة افتتاح المطعم، استقبلنا الأصدقاء بشكل عام، وزبائن "Mayrig" الأوفياء، وقد أشاد الجميع بالخطوة الجريئة التي قمنا بها. فالناس يأتون لدعمنا، وتشجيعنا على الاستمرار، وحثنا على مواصلة المسيرة وعدم الاستسلام. كما يأكدون على تمسكهم بمدينة بيروت".

وأضافت لـ"الاقتصاد": "لقد لاقينا تضامنا واسعا من اللبنانيين، والتمسنا حسا كبيرا بالمواطنية، وتمسكا واسعا بهذه الأرض؛ وهذا ما يدفعنا الى الاستمرار بالاستثمار في هذا البلد".

كما أوضحت أن الشرفة لا تستوعب أكثر من 20 شخصا، كما أن المطبخ يعمل بإمكانيات محدودة، مع العلم أن الوضع المعيشي القائم، لا يسمح للعديد من الأشخاص بارتياد المطاعم، والمشهد ما زال مأساويا. وقالت: "للأسف، لا نستطيع اليوم استقبال الزبائن كما كنا نفعل في مرحلة ما قبل الانفجار، والعودة الكاملة بحاجة الى الوقت والتمويل. لكننا مصرون على الاستمرار، و"حبة حبة" سنصل الى وجهتنا".

وقالت كماكيان أيضا: "لقد أعطى "Mayrig" أملا جديدا للناس، لأن من رأى المطعم بعد الانفجار، رجح أن يتطلب الأمر على الأقل 6 أشهر قبل العودة الى أي نوع من الخدمة. لكننا تمكنا بمساعدة عمال البناء الذين استعنا بهم، الذين عملوا تقريبا لـ24 ساعة في اليوم، من العودة الى تشغيل المطعم، ولو بنسبة متواضعة".

وختمت قائلة: "الجرح كبير جدا، قسم منه موجود في قلوبنا، ولا يظهر الى العلن، لكن القسم الثاني واضح في كل زاوية من زوايا "Mayrig"، ويبين حجم الدمار الذي عانينا منه. لكنني لا أريد تغطية هذه الجروح، بل على العكس، سوف أركز على إظهارها، لكي يرى الجميع أننا نجونا من هذه الكارثة؛ وهذا هو واقعنا!".

كارثة على نطاق مادي ومعنوي أيضا...

لا ندري ما إذا مسؤولية الكارثة التي حلّت ب​مرفأ بيروت​ في 4 آب الماضي، تقع على الفاسدين، المهملين، أو الإرهابيين... ولكننا نعلم جميعا أن لا أحد قادر على استرداد الأرواح التي سقطت، والقلوب التي تحطّمت، أو على شفاء الجراح الدائمة ومحو الندبات الباقية أبدا، أو على استعادة الأرزاق التي تدمرت، والذكريات التي تبعثرت، والتراث الغني الذي يبلغ عمره مئات السنوات، والذي اختفى بغمضة عين...

لقد تكبدت البلاد خسائر فادحة ولا تعوض، في الأرواح والممتلكات، حتى أصبحنا شعبا يعيش على الأزمات، ويتجه شيئا فشيئا نحو النفق الأسود المجهول... فالصدمة تلو الأخرى، خلقت نوعا من التأثيرات المركبة في داخلنا، وجرح نفسي قد لا تراه العين المجردة كالجرح الجسدي، لكنه مؤلم حتما، وطويل الأمد!

​​​​​​​

"Mellow" تنهض من تحت الركام...

ما تأسس خلال 8 سنوات، انفجر وتهدّم بلحظة واحدة... المتجر، المعمل، المنزل، والمخزن!

خوري

أشارت صاحبة ومؤسسة العلامة التجارية "Mellow"، الموجودة في منطقة مار مخايل، غيلدا خوري، الى أن معملها سوف يعاود العمل بعد مدة أقصاها شهر واحد، وقالت: "لن أسمح بزوال علامتي التجارية التي بنيتها بشغف من الصفر، وعملت يوميا على تطويرها، وتوسيع نطاقها".

وأضافت لموقع "الاقتصاد": "لقد حصلنا على العديد من ​المساعدات​ على الأرض، وهناك عددا كبيرا من الأشخاص الذين يقدمون لنا الدعم المادي والمعنوي أيضا، كما أن البطريركية المارونية ترمم الشارع الذي يتواجد فيه معملنا".​​​​​​​

مؤسِسة "Mellow": لن أسمح بزوال علامتي التجارية التي بنيتها من الصفر

وتابعت خوري قائلة: "لن أتمكن من استعادة الأمل بلبنان في أي وقت قريب على الأقل، لكن أملي بعملي يرافقني دائما ولم أفقده أبدا. وبالتالي، عند العودة الى نشاطنا الطبيعي، ستكون جهودنا الأكبر موجهة نحو الانفتاح الى الخارج. فنحن نعمل حاليا من المنزل، لأن أولويتي لم تعد لبلدي، بل باتت مقتصرة فقط على "Mellow" وفريق العمل. ومن هنا، سنقوم حتما بكل ما هو مفيد لهذه العلامة التجارية، أي أننا سنركز على تحسين بنيتنا، ومجموعاتنا المتنوعة، وموقعنا الالكتروني، بهدف التوسع نحو عدد من البلدان؛ مع العلم أنني أعشق زبائني اللبنانيين، ولن أتخلى عنهم إطلاقا. فقد وصلت الى ما أنا عليه اليوم بفضلهم، وأنا أشكرهم فردا فردا!".

وقالت: "لقد فقدت الثقة بدولتي، وأتمنى أن تشكل هذه المرحلة بداية للبنان الجديد، الذي نستحق أن نعيش فيه، والذي يقدر الإنسان ويحترمه، لكي لا تكون أرواحنا رخيصة بعد الآن...".

شركات ومؤسسات بيروت محطمة...

2750 طنا من نيترات الأمونيوم كانت كفيلة بتفجير قلب بيروت، وقلوب المواطنين معها. قتلى سقطوا وأسقطوا معهم شعبا بأكمله. جرح غائر، دمار هائل، وفاجعة واهية، وسط رعب خامد تحت ركام لم تختفِ آثاره بعد.

دمار هائل ألحق بعدد كبير من المباني والشركات والمنازل والشوارع والسيارات في بيروت. والمؤسسات التجارية التي كانت ترزح بالأساس تحت وطأة الأزمة الاقتصادية القاتلة، زادت عليه انفجار مرفأ بيروت المزيد من الأعباء الكارثية التي باتت تهدد وجوده وعودته الى نشاط، وقدرته على الاستمرار. فبعض المناطق التجارية المعروفة لم تعد موجودة حتى من جراء عصف الانفجار... فهل عاد البعض منها الى العمل بعد أكثر من 40 يوما على الانفجار الكارثي؟

التنير

​​​​​​​

أشار نائب رئيس جمعية تجار بيروت، ​جهاد التنير​، في حديث خاص لموقع "الاقتصاد"، الى أن المؤسسات التي عاودت فتح أبوابها هي تلك التي تضررت جزئيا، أي أن الأضرار اقتصرت فيها على تحطم الزجاج. وهي موجودة في الأشرفية العليا، أي في محيط ساسين والسوديكو. أما المكاتب والشركات والمؤسسات المحلات التجارية، الموجودة في المناطق القريبة مثل الأشرفية، الصيفي، الجميزة، مار مخايل، الكرنتينا، والدورة، فقد تضررت بشكل قوي وبنيوي، وفقدت أثاثها، وبضائعها، وأدواتها، وآلاتها، وملفاتها،...

وأكد أن جميع المؤسسات تعتزم العودة الى العمل في وقت ما، لأن الحياة ستستمر رغم كل الظروف الصعبة المحيطة، مع العلم أن بعض الأشخاص قد فقدوا الأمل للأسف، ويشعرون بالتردد تجاه الاستثمار مجددا في لبنان.

وذكر أن معظم الناس يعانون من شح ملحوظ في الأموال، كما أن المساعدات الآتية مبدئية، فهناك عددا كبيرا من المنظمات غير الحكومية، مثل "فرح العطاء"، "​كاريتاس​"، "أجيالنا" وغيرها، التي تساعد الناس، لكن إمكانياتها محدودة، مقابل الأضرار الكبيرة الحاصلة.

التنير: جميع المؤسسات المتضررة تعتزم العودة الى العمل في وقت ما

وأضاف التنير: "المنظمات تنشط على الأرض في ظل غياب تام للدولة، باستثناء الدفاع المدني وأفواج الإطفاء، والجيش اللبناني الذي يجول على المناطق للكشف عن الأضرار وتسجيلها. ولكن متى سيبدأ التنفيذ؟ كيف سيتم؟ الله وحده يعلم!".

وأكد أنه لولا المنظمات غير الحكومية والمساعدات من الدول المختلفة، والمبادرات الاجتماعية الشبابية الفردية، لكانت الأمور أسوأ بكثير من ما هي عليه اليوم.

ولفت الى أن الوضع العام في البلاد سيء جدا، خاصة بعد الحديث عن رفع الدعم، واقتراب احتياطي ​مصرف لبنان​ من الخطوط الحمراء، والتعقيدات الحكومية. وقال: "لا نعلم ماذا تخبئ لنا المرحلة المقبلة".

المؤسسات المطعمية... الضحية الدائمة للأزمات المتلاحقة!

لقد جاء انفجار المرفأ الهائل، ليقرع ناقوس الخطر، ويضيف مصيبة جديدة إلى جملة مصائب لبنان بشكل عام. أما قطاع المطاعم والحانات المثقل بالديون والمصاعب، والذي يعاني أساسا من وضع مادي حرج، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، فتلقى الضربة القاضية من "كورونا"، ليأتي بعدها الانفجار، ويدقّ المسمار الأخير في نعشه، بعد أن تدمرت مئات المؤسسات في بيروت وضواحيها من جراء العصف الذي حصل.

نزهة

"الاقتصاد" تحدث مع نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في ​لبنان​ ​خالد نزهة​، الذي أوضح أن معظم المؤسسات في بيروت تضررت الى حد كبير، في ظل عدم قدرة معظمها على القيام بأعمال الترميم، بسبب نقص التمويل، وعدم القدرة على الوصول الى الأموال في ​المصارف​.

ولفت الى أن بعض المؤسسات التي لم تشهد أضرارا واسعة، عمدت الى فتح أبوابها، واستقبال الزبائن من جديد، كما أن هناك عددا من المؤسسات الأخرى، التي تتجه الى العودة للعمل في وقت قريب، لكن النسبة الإجمالية ما زالت خجولة الى حد كبير. وقال: "نعول على الأيام المقبلة، وخاصة في حال تشكيل الحكومة في وقت قريب، وحصول بعض الإنفراجات، وعودة ثقة المواطن بالبلد؛ ما قد يشكل دافعا للتفكير بإعادة الفتح. مع العلم أن القدرة الشرائية للبنانيين لا تسمح لهم بالتردد الى المطاعم، كما كان الوضع في السابق".

وأشار نزهة الى أن قطاع المطاعم لن يتحسن إلا بعودة فتح الخط العربي، عودة مطار بيروت الى التشغيل بنسبة 80% على الأقل، إضافة الى التعافي الاقتصادي، وتحسين ​الأجور​؛ فمطاعم العاصمة تعاني من تراجع حاد في عدد الزبائن، لأن نسبة كبيرة من اللبنانيين توجهوا الى الجبال بسبب عدم قدرتهم على السفر، وحركة المطار ما زالت بطيئة، والغلاء الجنوني في الأسعار، الذي يقلل من أرباح المطعم، ويجبره على البيع بسعر متدن جدا، من أجل المحافظة على الزبائن".​​​​​​​

نزهة: مؤسسات في بيروت عادت لفتح أبوابها وأخرى في طريقها للعودة قريبا

وأضاف: "نحن نمر بمشاكل أمنية، منذ عام 1975، مع العلم أن هذه المرة هي حتما الأسوأ؛ فمع حادثة قبرشمون، والثورة وقطع الطرقات، وحجز المصارف لأموال الموعدين، وارتفاع سعر صرف ​الدولار​، ووباء "كورونا"، وأخيرا انفجار مرفأ بيروت، بات موضوع إعادة افتتاح المطاعم، وعودتها الى نشاطها السابق، مرتبط بإعطاء المصارف أموال الناس، و​تراجع الدولار​، والانتقال الى الاقتصاد المنتج للتخفيف من الاستيراد،...".​​​​​​​

وأكد أن "هناك مجموعة من العقد التي لا تسمح للمؤسسات بالعودة الى وضعها الطبيعي، قبل العمل على حلحلتها. وبالتالي، نحن بحاجة الى بعض الوقت للعودة. لكن إيماننا كبير بشعبنا وببلدنا، فاللبناني يصدر الى العالم أهم "فرانشايز" المطاعم، لمطابخ مختلفة".

وأضاف نزهة قائلا: "لدينا أمل في العودة الى ما كنا عليه قبل الانفجار، في حال تكاملت مجموعة من الأمور مع بعضها البعض، لأن لبنان غني بالمهارات والطاقات البشرية. ولكن اذا لم تخصص المصارف قروضا للمؤسسات، لكي تعيد فتح أبوابها، فالأمور متجهة حتما نحو الأسوأ؛ حيث أن غياب القروض من مصرف لبنان و​المصارف التجارية​، هو عامل سلبي يضاف على الأزمة القائمة".