في خطوة متقدمة ، شكّل تعميم ​مصرف لبنان​ رقم 154 مفاجأة في السوق صّبه البعض في خانة المبادرات الآيلة الى تفادي تطبيق "الـهيركات "على أموال المودِعين، حيث بات من الأفضل حثّ المعنيين بنَص التعميم، على استرجاع أموالهم من الخارج ووضعها في حساب خاص باسمهم ، فيما البعض الآخر اعتبره احد الحلول الممكنة للحكومة المقبلة ، ويبقى عليها تسديد ديونها و انشاء صندوق بممتلكات الدولة لتأمين كفالة فقط.

وفي المقابل ، اعتبره قسم كبير انتهاكا للدستور والقوانين والمبادىء العامة القانونية . ويتضمن احكاما تشريعية عامة تجعله صادرا عن مرجع غير مختص، وبالتالي منعدم الوجود وقابلا للابطال امام المراجع القضائية المختصة. ورأى فيه تحديدا اعتباطيا لتاريخ ​التحويلات​ التي يسري عليها، معطيا لأحكامه مفعولا رجعيا غير مبرر، محدثا جرائم جزائية من خارج المنظومة العقابية المنصوص عليها في القوانين النافذة، ومانحا حصانة للحسابات المصرفية المشبوهة تحت ستار التحفيز على إعادة الأموال المحوّلة، بما لا يقبله أي منطق ولا يمليه أي اعتبار قانوني او واقعي.

كانطباع اولي، التعميم المذكور يحث على إرجاع نسبة من هذه الأموال التي خرجت من لبنان دون ان يلزم ، مع فرض إعادة ​رسملة​ ​المصارف​، هو يطلب من خلال هذين القرارين من أصحاب المصارف والمساهمين في البنوك الذين أخرجوا الأموال لإعادتها، حتى تعاد القدرة لضخ دولار من جديد في السوق.

ولكن ما هو المضمون الحقيقي ؟

سروع

يقول الخبير المصرفي جو سرّوع "للاقتصاد " : إن ​حاكم مصرف لبنان​ "بنى قراره على جملة من مواد قانون النقد والتسليف الملائمة، و"أحكام القانون الرقم 44 تاريخ 24/ 11/ 2015 ، على "الظروف الاستثنائية" التي تمرّ فيها البلاد، وعلى قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان المتخذ في جلسته المنعقدة في 25/ 8/ 2020 . استحوذ البند الأول من التعميم على اهتمام واسع في شرعيته الدستورية، وهذا أمر في عهدة أربابه".

أما في ما يتعلّق بالشق العملي، فإني لا أجد التعميم ما يلزِم المودعين الذين أخرجوا أموالهم بين فترة التعميم الممتدة من 1/ 7/ 2017 إلى 17 / 10 /2019 ، إذ حافظت المصارف خلال هذه الفترة على ركائز العمل المصرفي في لبنان، المتمثلة باستبدال ​العملات​ من وطني إلى أجنبي وبالعكس، وعلى التحويل في الداخل وإلى الخارج بحرية تامة، ووفقاً لحاجة زبائنها أو رغبتهم. كما يطلب التعميم من المصارف أن "تحثّ" مودعيها على إعادة النسبة التي تمّ ذكرها سابقاً.و"الحثّ" في رأيي، لا يضمن إيجابية النتيجة المطلقة المنشودة مهما خلصت النيات واجتمعت.

وكذلك، يُطبّق البند الأول من التعميم على "رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف وعلى الإدارات العليا التنفيذية فيها وعملائها من الأشخاص المعرّضين سياسياً PEPS ، وذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو بواسطة شركات يمتلكها أي منهم، على أن تعتمد نسبة 30 في المئة بدلاً من 15 في المئة. في رأيي، إن هذا الأمر يتلاقى مع ما سبقه بتأكيد شرعيته القانونية، ويفترق عنه برافد معنوي مؤداه، أنه أولى برؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف وكبار المساهمين فيها وإداراتها التنفيذية، بأن تبقي ودائعها في مصارفها.

كما أن التعميم في مادته الثانية، في الفقرة ثانياً يدعو المصارف إلى "حثّ" عملائها من المستوردين،على أن يحوّلوا من الخارج إلى حساب خاص مبلغاً يوازي 15 في المئة من قيمة الاعتمادات المستندية المفتوحة في أي واحدة من السنوات الثلاث التالية، 2017 ، 2018، أو 2019 . وهذا أمر مثير للجدل، إن لم يُرفض مسبقاً من قبل المعنيين بهذا الأمر".

ورأى سرّوع، أن "في التعميم الرقم 154 أمرين مترابطين ومختلفين في آن معاً. في شق منه يطلب من المصارف حثّ عملائها الذين حوّلوا ما يزيد على 500 ألف دولار أو ما يوازيه بالعملات الأجنبية إلى الخارج بين 1 -7- 2017 وحتى تاريخ صدور القرار، على إعادة 15 في المئة منها، على أن تودع في حساب خاص يُجمّد لفترة خمس سنوات. ويطلب في شق آخر من أصحاب المصارف أو أعضاء مجالس إداراتها أو من الأشخاص المعرّضين سياسياً إعادة 30 في المئة" من الودائع المحوّلة. ونصّ التعميم في إطار طمأنة المودع، على تعهد المصرف بإرجاع المبالغ إلى أصحابها بموجب ضمانة خطية ملزمة قانوناً مهما كانت الظروف عند حلول الأجل المتفق عليها، مانحاً المصارف الحق بإعطاء فوائد على الحساب الخاص من دون التقيّد بسقوفها المحدّدة في القرار رقم 13100".

ومن قساوة الظرف، بحسب سروع، ان "المصارف التي كان في صلب عملها أن تضمن زبائنها عند أي طرف ثالث، داخل البلاد وخارجها، أصبحت الآن تكفل ذاتها بذاتها".

ولفت إلى "التفرقة الواضحة بين المودعين الحاليين الذين يعانون من الوصول المقنن إلى ودائعهم وفقط بالعملة الوطنية، وكذلك من قلق شديد على مصير ودائعهم، في حين أن المودعين الذين قد يعيدون ودائعهم، يحتّم التعميم على المصارف إعطاءهم هذه الضمانة".

وأوضح أن "التعميم في البند الخامس الرقابي في مادته الثانية، يحتّم على مفوضي المراقبة "أن يلبّوا في أقصر مدة ممكنة كل طلب او إيضاحات من حاكم مصرف لبنان، تتعلق بتطبيق و/ أو بصحة تطبيق هذه المادة من قبل المصرف المعني والمولجين بمراقبته. أما في ما يتعلق بالفترة الممتدة من 17/10 / 2019 حتى الآن، التي يشملها التعميم كما سابقتها، برأيي، أن لهذه الفترة شأناً آخر، خصوصاً في الفترة التي أقفلت فيها المصارف أبوابها. إذ أن خلال هذه الفترة وبغض النظر عن الأسباب، اتخذت المصارف تدابير استثنائية واستنسابية معلنة وغير معلنة موثقة وغير موثقة، تُعتبر انتقاصاً لحقوق المودعين المعنوية والمالية، وقد خالفت مبدأ الاقتصاد الحر الذي بُني عليه العمل المصرفي في لبنان منذ كان. الأساس في هذا الأمر هو الاستنسابية في هذه الفترة، في استبدال العملة الوطنية بالعملات الأجنبية والتحويل إلى الخارج، والانتقاص من حقوق المودعين المالية التي تمثلت بإيفاء في بعض الفترات الفوائد على الحسابات الأجنبية نصفها بالليرة اللبنانية على السعر الرسمي ونصفها الآخر بعملتها الاجنبية، وتقنين السحوبات بالعملة الوطنية والعملات الأجنبية إلخ ...

وعليه، فإن الأمر استهلك دراسة من كل الجهات المعنية وما زال عملياً عالقاً أو معلّقاً ، ومن الممكن في انتظار قانون "كابيتال كونترول".

ويقول سروع: "في مطلق الأحوال، علينا أن ننتظر آلية تنفيذ التعميم الرقم 154 ، لنستطلع ردود الفعل عليها وفرصة تنفيذها ومدى جدواها العملية. مع العلم أن من المتاح ومن الممكن أن يكون لدى الجهات المختصة وأصحاب العلاقة أرقاماً جدية عن قيمة التحاويل إلى الخارج، في الفترة بين 1/ 7/ 2017 و 17/10/ 2019 ، ومنها إلى الحاضر. إذ أنه كما هو معروف، أن كل التحاويل الصادرة إلى الخارج موّثقة بعملة البلد المرسلة إليه والمصارف المراسلة والمستفيدين، من خلال مصارف مقاصة في الدول المعنية، تُعرف بمصارف Banks of payments and settelments .

في المحصلة، وبحسب سرّوع إن "التعميم يهدف إلى تمكين المصارف خلال فترة زمنية محدودة إلى: الامتثال بحسب المقتضى ولو في شكل متدرج بكل النصوص القانونية والنشاطات المصرفية المطبقة على المصارف، لا سيما منها المتعلق ب​السيولة​ والملاءة، وذلك لإعادة تفعيل نشاطها وخدماتها المعتادة لعملائها بما لا يقل عما كانت عليه قبل تشرين الأول عام 2019 . إن هذا الهدف نبيل وهو مطلب، لكن السيولة المطلوبة والملاءة الضرورية،قد يساهم فيها بتعميم أوقرار. وكذلك إعادة هيكلة قسرية عملياً كي لا أقول قيصرية، وفي ظروف مالية واقتصادية قاهرة. ولكن بيت القصيد في مكان آخر تماماً، بإنجاز إعادة هيكلة مصرف واحد في ظروف مالية مثيلة لما يعاني منه لبنان، في ظل تغيّر أساسي وهيكلي في العمل المصرفي العالمي، بتداعيات الكورونا والتبديل في أولويات مكامن الإنتاج والجدوى في القطاعات الاقتصادية". أضاف : "وبكلام أوضح إعادة هيكلة اقتصادية ومالية، بما يضمن إرساء وتطوير اقتصادات منافسة قادرة على تحقيق نمو مؤثر وكاف لإنتاج فرص العمل المطلوبة، وشبكة أمان اجتماعي شاملة ومستدامة. أمر دونه على الصعيد العملي صعوبات جمّة، في طليعتها الموارد المالية، وتطوير ​الموارد البشرية​ واعتماد الفكر المصرفي الحديث المرتكز على إدارة المخاطر وبناء ​التنافسية​ المتقدمة، وإعادة هيكلة جذرية على كل الصعد البشرية والإدارية والتنظيمية، فكيف بالحري إذا كان محتوى إعادة الهيكلة لقطاع مصرفي بكامله. هذا بالتزامن مع تحقيق جزائي للمصرف المركزي وتعاون هذا الأخير في تحقيق مواز آخر مع مصرف فرنسا المركزي. مع العلم أن المصرف المركزي اللبناني، يعتمد تاريخياً على اثنين من كبريات شركات التدقيق في العالم. إذا سلمنا جدلاً في غياب الشفافية المطلوبة، أن أحد الأهداف الأساسية للتدقيق الجنائي الذي اعتمدته الدولة، وعلى ما يبدو حتى بعد توقيعاته اللازمة ما زال يثير جدلاً وتأخيراً في إطلاقه، وكذلك تدقيق بنك فرنسا المركزي هو تحديد خسائر المصرف المركزي، وبالتالي خسائر المصارف. سؤال يطرح نفسه، ما هي إمكانية التوافق على قيمة الخسائر بين الأطراف الثلاثة؟ ولنفرض جدلاً أنهم اتفقوا، ما هي الاستراتيجية التي سيتوافقون عليها لإطفاء هذه الخسائر: راديكالية كما ورد في خطة الدولة أم تدريجية كما ورد في خطة المصارف وعمل لجنة المال في البرلمان؟

وما هو موقف صندوق النقد مما قد يُتفق عليه؟ من المتوقع أن تنتهي مهمة الموكّلين من قبل الدولة، وفقاً للاتفاقية التي لم تُنشر، خلال عشرة أسابيع من تاريخ مباشرة المهمة؟ في غياب أي عدم تأكد من مسار التحقيقات وخواتيمها وتحديد الخسائر. ما سيكون عليه مصير تقديم المصارف خططها لإعادة هيكلتها وإعادة تكوين رساميلها في المدة التي حددها التعميم؟

إن إعادة الثقة في ​القطاع المصرفي​، ليست محصورة فيه، إنها في المقام الأول بإعادة الثقة في الدولة باستعادتها سيادتها واعترافها وليس انكارها لمسؤوليتها على الإيفاء بدينها، الذي هو أولاً وآخراً يعود للمودعين جميع المودعين، وذلك بتعهدها المطلق بإيفاء دينها السيادي، الذي هو كذلك في أساس إعادة هيكلة للمصارف جدية وصحية وقابلة للحياة، ومسؤوليتها في تفعيل إنتاجيتها وتعزيز شفافيتها، وتحقيق الإصلاحات المطلوبة من الخارج و ليس من الداخل فحسب، بل من كل أقاصي الأرض ونواحيها. وكذلك أن تعرف تماماً كيف تحلّ مشكلة بدلاً من أن تخلق من مسألة تفصيلية محدودة مشكلة كبيرة عصية على الحلول، إعادة تموّضع موقفها السياسي لمصلحة البلد التي أصبحت مطلباً إصلاحياً بامتياز لغالبية الدول المانحة للبنان ، ولإعطاء معنى حقيقي وآني، لإنطلاقة جدية لاية خطة تعافي للبلد بشقيها الآني والاستراتيجي، دولة تفاوض للوطن.

وأكد أن "إعادة الثقة في البلاد تبدأ بإعادة ثقة أهله بمؤسساته كل مؤسساته. إن كل بلدان العالم تعترضها مشاكل معقدة أحياناً، ولكن في هذه الدول أشخاصاً على قدر المشاكل وأحياناً اكبر منها لحلها. نفس المنطلق صحيح، أن لبنان بلد صغير لكن أدارته صعبة، ولكن قلّما خبِر في تاريخه الحديث رجالات على قدر مشاكله وصعوبتها. ربما ليس لعدم قدراتهم بل لضيق وأحادية وشخصانية وفئوية أهدافهم. ما شهدناه في الأيام القليلة الماضية، قد يشكل فرصة محلية مهمة ،قد يكون مردودها المعنوي أكثر فعالية من مردودها المالي، وفي حال تحققها من الممكن أن تحضّر لانطلاقة واعدة للمفاوضات مع ​صندوق النقد الدولي​، والذي يبدو الآن أكثر مرونة مع الوضع اللبناني، في ظل إمكانية إعادة النظر في تكوين الفريقين المفاوضين.

هل سنتلقّف هذه الفرصة بفاعلية من أجل البلاد والعباد، أم كالعادة عدم تفويت فرصة لتفويت فرصة؟.

في ضوء هذه المعطيات ، تبدو مسيرة استعادة الثقة بالقطاع المصرفي جزءا لا يتجزأ من استعادتها بالدولة المعدومة اصلا ، سيما وانها المصدر الاساسي للسلطات النقدية والمالية والاقتصادية وهي وعرة مخروقة بسلسلة مطبّات يتطلب اجتيازها العمل بشفافية مطلقة ، وبعدالة منصفة ، تنتزع الحقوق من مغتصبيها وتعيدها لاصحابها باقرب فرصة ممكنة . وان كان تنفيذ التعميم 154 غيرملزم بالقانون، فانه من المفترض ان يشكل اطارا اخلاقيا على الأقل رغم الثغرات في بنوده .