آثار التعميم رقم 154 الصادر عن ​مصرف لبنان​ عاصفة من السجالات والمواقف المتناقضة، سياسيا واقتصاديا وماليا، واظهرت المواقف منه، وكما جرت العادة في لبنان، خلفيات مبيتة، ومصالح مكتومة، تحاول التعبير عن نفسها بتحليلات اقتصادية.

يطلب التعميم رقم 154 من ​المصارف​ اللبنانيّة "حثّ" عملائها، الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها الـ500 ألف دولار أو ما يوازيها بالعملات الأجنبيّة إلى الخارج منذ أوّل تموز 2017، على إعادة 15% من القيم المحوّلة وإيداعها في "حساب خاص" مجمّد لمدّة خمس سنوات. أمّا إذا كان العميل المعني أحد رؤساء أو أعضاء مجالس ادارة المصارف، أو أحد كبار المساهمين فيها، أو أحد الأشخاص "المعرّضين سياسياً"، أي الذين يشغلون مناصب تنفيذيّة أو تشريعيّة أو إداريّة عليا في الدولة، فتصبح النسبة التي يقتضي إعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات هي 30% من قيمة ​التحويلات​ التي تمّت إلى الخارج.

المصارف

تلقف الوسط المصرفي بإيجابية هذا التعميم ، واعتبرت ​جمعية المصارف​ أن "​حاكم البنك المركزي​ يعي تماماً تفاصيل التعميم وأهدافه وحيثياته وبالتالي هو متأكد من قانونيّته تماماً، أما المصارف فيقتصر دورها على تطبيق التعميم عبر التمني على كبار عملائها وجوب استرجاع النسبة المذكورة من الأموال المحوّلة، وإذا لم يفعلوا، عندها تبلّغ مصرف لبنان بالأمر".

ورأت الجمعية أنه "مع هذا التعميم ستتكشف الأمور لمن اتهم المصارف ولا يزال، بتهريب الأموال إلى الخارج، ومَن حوّل أمواله سيُعيد 30 في المئة منها إلى لبنان وهي نسبة غير ضئيلة، وستعود إلى الشخص ذاته بحساب خاص به".

اليسار

هذا الترحيب يكفي وحده ليشن اليساريون حملة شعواء على التعميم أولا لانه استخدم تعبير "حثّ" وهذا يعني أنّ الموضوع غير جدّي وقد لا يتحقّق، أو انه سيتم بالتراضي وبطريقة استنسابية بالتواطؤ بين البنك المركزي من جهة والمصارف وكبار المودعين (مثل السياسيين ) من جهة ثانية . كما تساءلوا عن الفوائد التي ستدفع مقابل الأموال المستعادة، وهل سنكون أمام هندسة مالية جديدة ، على غرار الهندسات السابقة التي استخدمها الحاكم ​رياض سلامة​ للحصول على ​السيولة​ لتمويل الدولة المفلسة ، مقابل فوائد باهظة استفادت منها المصارف ؟ والسؤال الأهم من أين يدفع مصرف لبنان هذه الفوائد بعد خمس سنوات ، وهل سيكون الدفع من أموال المودعين المحتجزة أرصدتهم في المصارف منذ نهاية العام الماضي .

واعتبر اليساريون أن هذا التعميم يهدف بالدرجة الاولى الى مكافأة مهربي الأموال الى الخارج ، بمنحهم فرصة العودة الى السوق اللبناني مقابل اغراءات .

اليمين

من جهة اليمين لم يكن الحال افضل، اذ اعتبر البعض أن رقم 154 ينتهك الدستور والقوانين و​المبادئ​ العامة القانونية ويتضمن أحكاما تشريعية عامة تجعله صادرا عن مرجع غير مختص، وبالتالي منعدم الوجود وقابلا للإبطال أمام المراجع القضائية المختصة، فإنه -وهذا الأخطر- تضمن تحديدا اعتباطيا لتاريخ التحويلات التي يسري عليها، معطيا لأحكامه مفعولا رجعيا غير مبرر، محدثا جرائم جزائية من خارج المنظومة العقابية المنصوص عليها في القوانين النافذة، ومانحا حصانة للحسابات المصرفية المشبوهة تحت ستار التحفيز على إعادة الأموال المحولة، بما لا يقبله أي منطق ولا يمليه أي اعتبار قانوني او واقعي.

اعتراضات اقتصادية

الاعتراضات على التعميم جاءت أيضا من بعض القطاعات الاقتصادية فطلبت ​جمعية تجار بيروت​ التوضيح في ما إذا كان التعميم يقتصر على التحويلات من الحسابات الخاصة، وهذا برايها إجراء أصلا غير قانوني، أو أنه يشمل إيضا التحاويل المنفذة للأغراض التجارية بموجب عقود وفواتير واعتمادات مستندية والمسددة للموردين، لأن وقعه سيكون كارثيا ويشكل ضربة قاضية على مالية الشركات العاملة في لبنان، خصوصا وأنها تحقق الخسارة تلو الخسارة، واحتفظت بدورتها المالية المتهاوية في حساباتها المحلية في لبنان لتسديد هذه الخسائر.

ورفض المستوردون أن يخصّهم التعميم ببند يفرض إعادة نسبة 15% من ​الاعتمادات​ المستنديّة التي فتحوها خلال السنوات الثلاث الماضية إلى ​النظام المصرفي​ ليتمّ تجميدها لمدّة خمس سنوات، خصوصاً أنّ هذه التحويلات جرت مقابل شراء بضائع، ولا يمكن عدّها عمليات تحويل ودائع إلى الخارج لتطالب المصارف باستعادة هذه الودائع.

كل هذه الاعتراضات ذات الطابع الاقتصادي البحت ، فيها شيء من الصحة، ويمكن أن يتم توضيح بعض الالتباسات ، بتعميم آخر، أو يقرار توضيحي خاص. إلا أن الاعتراضات السياسية شيء آخر وينبغي مقاربتها من ​زاوية​ مختلفة.

وكذلك بالنسبة لدستورية التعميم فإن الحكومة والمجلس النيابي موجودان وكذلك المجلس الدستوري، ويمكن بكل بساطة اعادة درس التعميم وتحسينه

تحقيق الهدف

الهدف الأساس من التعميم هو تأمين السيولة في السوق اللبناني ، وهذا امر ايجابي للغاية ، اما الطريق فينبغي تطويرها . لقد اشرنا في مقالات سابقة عن معلومات جدية متداولة عن تهريب ما بين 22 و28 مليار دولار من لبنان الى الخارج منذ العام 2017 ، وطالبنا بالعمل على استعادتها لتكون وديعة في مصرف لبنان من دون فائدة، أو بفائدة قليلة، ولم يطالب أحد بمصادرتها بوصفها أموالا منهوبة، فهذه قضية أخرى . وعودة مليارات الدولارات الى البلد هي بداية تحقيق الاستقرار النقدي من خلال تمكين مصرف لبنان من تعزيز احتياطاته، فيلجم التلاعب بالدولار ، ويبعد الكأس المرة عن المواطنين والتي يلوح بها البعض، بوقف دعم السلع الاستراتيجية الثلاث: ​المحروقات​، و​القمح​، والدواء.

وإذا كان البعض يعول على برنامج تمويلي للدولة بقيمة عشرة مليارات دولار يقدمها ​صندوق النقد الدولي​ كقروض ، فإنه مخطئ تماما ، لان الصندوق لن يقدم فلسا واحد إلا بعد تلبية شروط مالية بحتة ، ومنها زيادة رساميل ​المصارف اللبنانية​ ، واقفال المصارف المتعثرة ، واعاد هيكلة ​القطاع المصرفي​ ككل .عدا عن برنامج الاصلاحات في كل القطاعات ، وخصوصا ​الكهرباء​، بما يضمن وقف الهدر والنزيف في مالية الدولة.

التعميم 154 هو خطوة مالية اولى على هذا الطريق ، وينبغي تشجيعه وتطبيقه بعد تطويره ، وخصوصا انه تطرق الى "المعرضين سياسيا " ، وهذا يمس الطبقة السياسية اللبنانية المتهمة بهدر المال العام و​الفساد​ والصفقات المشبوهة ، عدا عن العجز في إدارة الشأن المالي و إغراق لبنان في الخسائر و​الديون​ .

هنا الكرة في ملعب الحكومة العتيدة ، والتي يقال عنها ستكون حكومة اختصاصيين، مستقلة عن هذه الطبقة السياسية، وذلك من خلال تقديم مشروع قانون يجبر المصارف، وليس يحثها، على زيادة رساميلها باعادة الاموال الى البلد ، تحت طائلة إقفالها. وعلى ​مجلس النواب​ إقرار هذا قانون بدلا من التلهي بقوانين تعالج بعض جوانب ​الازمة المالية​، مثل قانون منح الطلاب في الخارج مبلغا مدعوما معينا بالدولار. فهذا على أهميته لا يعالج كل المشكلة.

قانون النقد والتسليف يلزم ​حاكم مصرف لبنان​ بإجراءات مهمة ، تمكنه من ادارة المال العام ، ولكنه في المرحلة الراهنة لا يكفي، وهو قاصر عن تقديم الحلول الاستثنائية لأن أزمتنا استثنائية . وهذا واجب المجلس النيابي بتعديل القانون وتطويره بحيث يتلاءم مع روح العصر في الاقتصادات الحرة ، والتي تضمن قوانينها توافر السيولة في المصارف بشكل دائم .

كذلك ثمة اجراءات كثيرة يمكن للحكومة تنفيذها من أجل طمأنة الناس على مصير إيداعاتهم في المصارف اللبنانية، كما أعلن بعض نواب تكتل "الجمهورية القوية" في مؤتمر صحافي قبل أيام . فالمطلوب خطة اقتصادية نقدية مالية تضع في سلم اولوياتها المحافظة على أموال المودعين والالتزام بالقوانين المرعية الاجراء، كما عبر تنفيذ القوانين النافذة وفي طليعتها قانون مكافحة ​تبييض الأموال​ و​تمويل الإرهاب​ رقم 44/2015 الذي يعتبر ركيزة قانونية أساسية يؤدي تدعيمها الى استعادة جميع الأموال المتأتية عن جرائم فساد، كما والى التثبت من صحة الايداعات والتحاويل من الحسابات المصرفية اللبنانية وإليها، عبر تفعيل عمل هيئة التحقيق الخاصة التي نص القانون رقم 44/2015 على انشائها ومنحها الصلاحيات الكاملة .