عسى المشهد الانساني الحزين الذي ولّده الانفجار في ​مرفأ بيروت​ في 4 آب، والواقع الذي بدأ يستيقظ عليه ال​لبنان​يون المفجوعون بالموت والمنكوبين والمصابين، ويراقبه اللبنانيون المغلوب على أمرهم بحسرة، تسقط أمامه الحسابات الأخرى الاقتصادية والمادية. فبالتأكيد، كل أرقام نتائج مسح الأضرار سواء في مرفأ بيروت أم في الممتلكات من منازل ومستشفيات ومحال و​فنادق​ ومراكز تجارية ومالية تبقى أولية، ولا توصّف الحقيقة لأنها كبيرة وضخمة.

وإذ إن المرحلة المقبلة كفيلة بكشف الحقائق وبتحديد حجم الخسائر الفعلية، فإن التساؤل يبقى عما ينتظر اللبنانيون من أوضاع معيشية لا سيما بعد ​زلزال​ 4 آب؟

هل من جديد حول عزم "​صندوق النقد الدولي​" أجل تقديم المساعدة، خصوصا وأنها مشروطة بإصلاحات عاجلة مطلوبة من السلطة اللبنانية؟

ويؤكد الاقتصادي الدكتور روي بدارو، أن جميع الخسائر المادية الناتجة عن الانفجار في مرفأ بيروت ليست هامة اليوم، ولا يجدر بأحد التوقّف عندها أمام أرواح الضحايا التي سقطت. ويقول لـ "الاقتصاد": "نحن اليوم نفقد الأمل. وما من تعويض عن ذلك. من هنا، فإن الكثير من المواطنين سيجد في باب الهجرة خلاصه الوحيد. في الواقع، الوضع الاقتصادي في لبنان لم تكن مشكلته الحصار الدولي كما يحلو للبعض وصفه. وإنما هو نتيجة سياسات خاطئة لادارة البلد على كافة الصعد السياسية، الاقتصادية، المالية والنقدية. نحن لم ننجح في إرساء بلد حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. والجميع يدفع ثمن خيارات خاطئة. ولم يعد مقبولا تكرار سيناريو الخلافات الداخلية، علينا الاختيار وفق أي سرعة يجب النهوض بلبنان بين جميع الفرقاء".

ويضيف بدارو: "بعد 4 آب ليس أبدا كما قبله. هذا النظام المطبّق أصبح هرماً. اللعبة الداخلية انتهت. بغض النظر من هم الرؤساء، فلا أحد يستطيع من الداخل تغيير المسار.

كما أنه لا يمكن فقط الاعتماد على التحرّك الفرنسي باتجاه لبنان سيما وأنه مرتبط بتوافق بين الرئاسة والسياسة الخارجية الفرنسية".

وبالنسبة لـ "صندوق النقد الدولي"، يرى الدكتور بدارو أن أي مساعدة لن تتم قبل القيام بالإصلاحات المطلوبة والملحّة والتي أصبحت معروفة.

ويلفت إلى أن "لبنان دخل في مرحلة اقتصادية خطيرة، ولم يعد يملك مصرف لبنان من احتياط للتدخل أكثر من 3 مليارات دولار قبل اللجوء إلى الاحتياطي الإلزامي للمصارف".

ويعبّر عن خشيته من أن يعيش قسم كبير من اللبنانيين على المعونات التي سترسل إلى لبنان في الأيام المقبلة.

ويقول: "في مطلق الأحوال، لا يمكن الرّهان على ​المساعدات​ الدولية التي ستصل لبنان لتغيير الواقع الاقتصادي. فإن ​سعر الدولار​ لن يتغيّر، وبالتالي حجم الدين سيتفاقم أكثر. إلا أنه في غضون ذلك، من المرجّح فتح خطوط ائتمان ذات طابع إنساني، ولكنها ستبقى دون المستوى المطلوب.

وإذ تم توجيه مسار المساعدات الانسانية إلى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بفعل انعدام الثقة بالسلطة الحاكمة وقد جاء ذلك على لسان أكثر من مسؤول أجنبي خارجي، فإن الاستعداد الدّولي غير المسبوق لتقديم المساعدة في إعادة إعمار لبنان مشروط بالتأكيد بقيام سلطة جديدة وحكومة مستقلة محايدة قادرة وغير مقيّدة".

وهذا الاسبوع، طالبت نائبة فرنسية بضرورة رفع درجات الرقابة على المساعدات الفرنسية والأوروبية، سواء الممنوحة أو التي ستمنح للبنان، إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 آب.

وقالت النائبة في ​مجلس الشيوخ الفرنسي​، نتالي غوليه: "لبنان يحتاج اليوم إلى خطة من نوع مشروع مارشال (المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير ​أوروبا​ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال)، تهدف أولاً إلى عملية عاجلة لإسكان آلاف الأشخاص الذين فقدوا كل شيء، ثم تركيز ​التبرعات​ وإدارتها وفقاً لخارطة طريق متّفق عليها مع سكان بيروت، ومع السلطات اللبنانية بطريقة شفافة، مع وجود مشرفين أجانب".

وأضافت غوليه: "يجب أن نؤسس لحوكمة إعادة الإعمار، إذ يمكن أن تكون لجنة إعادة الإعمار فكرة جيدة، بشرط ضمان استقلالها و​نزاهة​ أعضائها. وربما تكون ملحقةً بالبنك الأوروبي لإعادة الإعمار، والذي يمكن أن يساعد في تحسين ​الوضع المالي​ وحل الشكوك المشروعة للمواطنين الذي تضرروا عقوداً من ​الفساد​. لذلك توجد حاجة لرقابة أفضل على الأموال الأوروبية الممنوحة. إنها ليست قضية وضع لبنان تحت المراقبة أو انتهاك سيادته، بل مسألة تتعلق بإنقاذ ما يمكن إنقاذه لإعادة الأمل للبنانيين".

وتابعت النائبة الفرنسية، التي تنتمي للكتلة المستقلة: "لقد أحسن الرئيس ماكرون صنعاً عندما قال إن المساعدات ستُدار بطريقة شفّافة وواضحة، لأننا كُنّا سابقاً إزاء عمليات فساد هائلة وقد تعرضت الإعانات الأوروبية للاختلاس، وفي أحسن الأحوال، إلى إساءة استخدامها كما هو الحال مركز فرز ​النفايات​ في ​طرابلس​، لذلك فالرئيس الفرنسي يدرك أهمية هذه النقطة بالذات".

وكان النائب الفرنسي بالبرلمان الأوروبي في ​بروكسل​، تييري مارياني، قد طالب في كانون الأول 2019، بالتحقيق في الأموال التي وهبها الاتحاد إلى لبنان في السنوات الماضية، مشيراً إلى أن ​الاتحاد الأوروبي​ قد منح لبنان هبة لبناء معمل لفرز أكثر من 500 طن يومياً من النفايات وتشغيله لمدة ثلاث سنوات في منطقة الفيحاء بطرابلس، ولم يُنفّذ بحسب دفتر الشروط.

نعم، لا ثقة دولية ولا محلية بالسلطة التي أدارت وتدير شؤون البلاد فكيف بالأحرى بمن أهملت إلى حد تم فيه قتل الشعب.