مع هول الكارثة الكبيرة التي حلّت في العاصمة بيروت وما خلّفته من ​زلزال​ غامض غير محدود التداعيات، تشير مجريات التطورات المتلاحقة إلى أن شهر آب الحالي سيكون لهابا على كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية. فالجنون القائم في التعاطي مع الملفات الساخنة يحرق كل ما تبقى في البلد من مقوّمات، وكأن المؤامرة تفعّلها أيادي الشر بعد إيقاظها من كل حدب وصوب.

والأهم في قلب هذه ​العاصفة​، ترسّخ الاقتناع السائد والمزمن لدى المسؤولين بأن الورثة ثقيلة، وثمة أشباح أطراف تعرقل تدابير الإنقاذ، لتقابلها أصوات أخرى بالقول إن "السلطة الحالية فاشلة".

سئمت آذان ال​لبنان​يين والعالم من عبارة "لا يدعوننا نعمل، فهم يعرقلوننا". كما ملّت الآذان نفسها من اتهامات حول تقصير المسؤولين في إيجاد الحلول وفي تحميلهم مسؤولية ما وصلت إليه البلاد.

نعم، البلاد اليوم في أسوأ مراحلها التاريخية بغض النظر عن من يقف وراء ذلك سواء كانت الطابقة الحاكمة الحالية أو السابقة، فالشعب يريد الحصول على لقمة عيشه بكرامة، بعيدا عن الذل، يريد استعادة مدخراته عن تعب وجنى عمره، كهرباء على مدار الساعة، مياه نظيفة، بيئة سليمة خالية من ​النفايات​ والسمسرات، شبكة اتصالات سريعة وغير مشوّشة، ضمان صحي مشرّف ونظام صحي لائق.

وسط هذه الضبابية، يكاد البحث عن أبواب الفرج يصطدم بعقبات خطيرة، علما أن الدول الصديقة قدمت الحل المناسب الداخلي بعدما أحسنت في تشخيص الداء اللبناني. فغرد المنسّق الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش معلقا على استقالة وزير الخارجية ناصيف حتي معتبرا أن "اللبنانيين ينزلقون يوما بعد يوم في هوة ​الفقر​ و​اليأس​".

الدول خائفة على وضع الفقر في لبنان، فيما ​السياسيون​ يتناوبون في العتب وتقاذف المسؤوليات. وأخطر ما سمعناه الأسبوع الفائت عن تعثّر الدولة في تسديد رواتب ​القطاع العام​. وإذا صحّت المؤشرات المتعاقبة في هذا السياق، فإن الأيام المقبلة لن تكون فيها الأمور على ما يرام، وسط سجال بين وزير المال وجمعية ​المصارف​ حول مصدر دفع رواتب موظفي القطاع العام من الخزينة أم من أموال المودعين في المصارف، من أين تدفع هذه الرواتب؟ وإلى متى تستطيع الدولة تأمين هذه الرواتب؟ وكم تبلغ واردات الدولة اليوم؟ وما تداعيات توقفها والخيارات المتاحة أمام الدولة اليوم لتسديدها؟

رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، يرى أنه "من الطبيعي الوصول إلى هذا الوضع مع نمط ​الإنفاق​ المستمر وبغياب أي إصلاح جدي".

ويقول: "العجز في المالية العامة يبلغ 3.1 تريليون ليرة، أي أنه على الحكومة أن تستدين من الخارج لتأمين أي تمويل. ولكن بعد التخلّف عن تسديد استحقاق "اليوروبوندز"، أُقفل باب التمويل الخارجي. وها هي المصارف قالت كلمتها: "لا تعتمدوا علينا، فلتبحث الدولة عن مصدر آخر يؤمن لها التمويل." وهذا يعني أنه على الحكومة إجراء الاصلاحات المطلوبة، وتخفيف النفقات العامة، وإعادة النظر بعدد الموظّفين الذين أُدخلوا بالواسطة لتلبية المحاصصات".

وأضاف مارديني: "يجب معالجة المشكلة والتوقّف عن تسديد ال​قروض​ المرتبطة بالسدود القائمة والأهم وقف الدفع للبواخر التركية التي أثبتت فشلها في تأمين الإنتاج".

ويخشى مارديني لجوء الحكومة إلى طبع الليرة بطريقة ملتوية من أجل تمويل هذه النفقات المترتبة وقال إنه "في هذه الحال سندخل في مرحلة ارتفاع الأسعار، وانخفاض سعر العملة الوطنية، وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطن، وكل ذلك بغياب أي إصلاح جدي. باختصار، الحكومة أمام خيارين إما ​دفع الرواتب​ للقطاع العام وترحيل البواخر وتوقيف مشاريع السدود وإما التخلّف عن دفع الرواتب والإبقاء على هذين الأمرين".

وعن ​الايرادات​ يذكر مارديني إنه "في شهر أيار من العام الحالي بلغت 4.8 تريليون ليرة في مقابل نفقات بلغت 7.9 تريليون ليرة، مما يعني أن العجز كان بحدود 3.1 تريليون ليرة أو 3.1 مليار ليرة. من هنا، كان على الحكومة إيجاد مصدرٍ لتسديد هذه المتوجّبات إما من المصارف أو من الخارج. فصندوقي "أشمور" للمحافظ الاستثمارية و"فيدلتي" في الخارج، إنسحبا ولم يبق سوى المصارف التي عبّر رئيس جمعيتها أخيرا عن موقفها الرافض لأي تمويل. ولا ننسى أن هذا العجز سيتزايد فيما لم يبق سوى خيار الاصلاحات الهيكلية وحصر النفقات وهذا يتم في جزئين؛ جزء أول مرتبط بالرواتب و​الأجور​ المدفوعة في القطاع العام، وهنا يجب تطهير القطاع من بعض الموظفين الذين ليس لهم أي وظيفة. والجزء الثاني يتعلق بالبنى التحتية من كهرباء ومياه وشبكة الاتصالات و​إنترنت​ التي هي بحاجة ماسة لإعادة هيكلة".

ويقول مارديني: "في موضوع ​الكهرباء​، لا أعرف ما هي الجدوى من الإبقاء على البواخر إذا كانت ساعات الكهرباء المؤمنة عن طريقها لا تتعدى الـ 4 ساعات في اليوم، علما أنه في حال تم تشغيل معامل الإنتاج الموجودة فإن ساعات التغذية ستكون أكثر بالتأكيد. ولماذا اليوم يأتي الإصرار على بناء السدود الجديدة طالما أن هناك تعثّر في تقسيط قروض السدود القديمة".

أما الخيار الأسوأ بحسب مارديني فيبقى "اللجوء إلى ​طباعة​ العملة لتمويل النفقات، وهي أسوأ سياسة يمكن أن تلجأ إليها الحكومة. ففنزويلا التي تتخبّط بأزمة اقتصادية كبيرة لجأت اليها. وإذا اعتمدت الدولة هذا الخيار فان التضخّم في الأسعار سيكون سيّد الموقف، يرافقه تدهور كبير في سعر صرف الليرة ويكون قرار الدولة تفقير الشعب اللبناني قد اتخذ فيما إنها لا تجرؤ على تنفيذ الاصلاحات".

في المعطيات المتوافرة، ما عدا الأجهزة الأمنية على أنواعها وتعدادها، وفيما تمنع عدد من الإدارات عن الاجابة عن سؤال إدارة ​التفتيش المركزي​ عن عدد الموظفين والمتعاقدين و​المياومين​ لديها لأسباب غير معلومة، لكنها تؤكد عدم انتظام مؤسسات الدولة، بلغ عدد الموظفين والعاملين المصرح بهم نحو 90 ألفاً. ووفق "الدولية للمعلومات" فإن عدد العاملين في القطاع العام في لبنان يبلغ 300 ألف، يتوزعون كالآتي:

120 ألفاً في الأسلاك العسكرية والأمنية.

45 ألفاً في قطاع التعليم بمختلف مستوياته.

25 ألف موظف في الوزارات والإدارات العامة.

ويبقى السؤال ماذا بقي من خيارات بعد هول هذه الانهيارات؟