قيل في تعريف السياسة الكثير، فاعتبر البعض أنها فن الممكن، أو أنها الحرب بالدبلوماسية. وفي الواقع فإن التجارب البشرية أثبتت دوماً، أن السياسة في نهاية المطاف ليست سوى فن إخفاء الوقائع الحقيقية، وتقديم أخرى ملائمة لأصحابها، أي أنها فن الكذب.

في عالم المال، الاقتصاد المسألة تختلف قليلا، فالحاكم في هذا العالم هو الأرقام، والأرقام صمّاء لا مشاعر لها، لا تنفعل، ولا تتعاطف، ولا تكذب، ولكن هذا يصح في عالم مثالي، وتحديداً في دول تعترف بقدسية الرقم، وليس في دول مثل لبنان، تعتبره وجهة نظر.

الهدف من هذا الكلام ما سمعناه ونسمعه كل يوم من وقائع التفاوض اللبناني مع "​صندوق النقد الدولي​" للحصول على ​قروض​ بعشرة مليارات دولار، لإطلاق خطة التعافي المالي، وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى حجم الكذب المتداول داخل الوفد اللبناني، والذي جعل ممثلي الصندوق يبتسمون ابتسامات صفراء عريضة وساخرة.

يكذب المفاوضون اللبنانيون على الصندوق، وعلى الناس... وعلى أنفسهم. وهنا لا نتحدث عن أعضاء الوفد الحكومي فقط، فالخداع يستخدم من قبل الجميع.

المسألة الأولى في موضوع التفاوض هي الخسائر، وقد تحدثنا كثيرا عنها، فكان للحكومة رقم، وللجنة المال و​الموازنة​ رقم، وللبنك المركزي وجمعية ​المصارف​ رقم ثالث. وعندما عادت شركة "لازارد" لرعاية مفاوضات مصالحة بين الأطراف اللبنانيين، استعر الخلاف ولم يخمد، حتى أن ​جمعية المصارف​ بدأت تفكر بالانسحاب من "الصّلحة"، وقد سبقها إلى الخروج المبكر من حفلة التكاذب هذه مفاوضون حكوميون.

جمعية المصارف لن تنفذ تهديدها بالانسحاب لأنها معنية حتى العظم بمتابعة ملف تحديد الخسائر، ولاحقا كيفية توزيعها، وسواء بقيت الجمعية مشاركة، أو لا، فإنها ستتحمل حصة وازنة من عملية توزيع الخسائر.

انسحاب "جميعة المصارف" هو كالرجل تحت المقصلة، لا يجد عملا آخر سوى إغماض عينيه قبل تنفيذ الحكم.

مصرف لبنان​ الذي حاول منذ البداية فرض إيقاعاً معيناً بالتعامل مع المفاوضات، مستمر بحكم الضرورة، أياً تكن النتائج.

وحديثا ظهرت مقالات ودراسات في مؤسسات دولية عريقة تتحدث عن التخبّط في إدارة أموال المركزي، وخصوصا تضخيم الموجودات بطريقة "غير تقليدية"، بحسب تعبير صحيفة "​فايننشال تايمز​".

الحكومة ملزمة بهذه المفاوضات لأن لا بدائل خارجية للتمويل المطلوب من صندوق النقد، ولا بدائل داخلية أيضاً.

خسائر المالية العامة تبلغ نحو 70 مليار دولار. هذا رقم أصم، لا يكذب. وكل من يريد التذاكي والكذب سينفضح عاجلا أم آجلا. والمسؤولية الوطنية تقتضي التعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يشتهي هذا أو ذاك.

كما سبق وشرحنا مرارا، ثمة طريقان، لتوزيع الخسائر لا ثالث لهما إلا المزيد من الاستدانة المستحيلة (لا أحد في العالم يمكن أن يقرضنا المال بعد اليوم). الطريق الأول: يعني حتماً التوزيع العادل للخسائر على فئات ثلاث، على طريقة من ربح أكثر في السنوات الماضية يدفع أكثر، ومن ربح أقل يدفع أقل، ومن تضرر لا يدفع شيئاً.

الفئات الثلاث معروفة بالاسم وبالرقم. من ربح، وكم ربح؟

الطريق الثاني: يقتضي بيع ما تبقى من أصول الدولة وسد العجز، كالعائلة المفلسة والمدينة والتي لا تجد في نهاية المطاف بُدّاً من بيع ​البيت​ الذي تسكنه لتسديد الديون. ولكن يحدث أن دولتنا غنية وليست فقيرة، واقتراح بيع الواجهة البحرية، الخبيث سياسيا، والدسم مالياً، يمكن أن يؤمّن وحده خمسين مليار دولار نقدا.

وبالحديث عن الخسائر، أعيد طرح مصطلحين سامّين، "الكابيتال كونترول"، و"الهيركات".

الأول يسعى المجلس النيابي غير الكريم، إلى استصدار قانون ينظمه، فيحول دون هروب الرساميل إلى الخارج. وهنا المأساة. فعن أي رساميل يتحدثون: لقد ضرب من ضرب، وهرب من هرب. ولم يبق في البلد إلا قلة من الودائع الكبيرة نسبيا لمغتربين، هي جنى العمر، يريدون شرعنة حجرها في لبنان، فالحجر موجود أصلا منذ تشرين الأول 2019. في الوقت الذي جرى فيها تهريب عشرات مليارات الدولارات.

أما الهيركات فهو الذي سيستهدف الفئة المذكورة آنفا، أو بعض كبار المودعين في الدّاخل. وبالتأكيد فهو أمر مرفوض لأنه يحمل الخسائر لمن لا ذنب لهم.. والسؤال الذي يطرح هو ما الفائدة؟ وكم ستحقق هذه العملية؟ في ظل هروب الرساميل الكبيرة لحيتان المال الحقيقيين.

رئيس الحكومة سبق وأعلن أن الهيركات لو طُبّق سيطال أقل من 2 % من المودعين، وأن أصحاب الودائع الصغيرة لن يـتأثرون. والآن يعلن أن الدولة لن تبيع أصولها.

"جمعية المصارف" تتذرع برفض الهيركات لرفض الاستمرار في التفاوض.

مصرف لبنان مُتّهم بتضخيم موجوداته.

من يكذب؟