منذ سنوات وسنوات، والمؤسسات الدّولية تحذر المعنيين في لبنان من أن الإنهيار سيأتي لا محال، وكانت تحثّهم في تقاريرها الدورية على ضرورة البدء بالإصلاحات وتحديداً في ​القطاع العام​، وقد ظهر هذا الأمر جلياً في مؤتمر "سيدر"، إذ رفضت الدول المشاركة في المؤتمر آنذاك إعطاء لبنان أي دولار قبل البدء بالإصلاحات.

إلا أن الإصلاحات لم تتحقق، والدولارات لم تأتي، و​صدق​ حث المؤسسات الدولية، فلبنان اليوم يعيش إنهياراً مالياً واقتصادياً لم يعرف له مثيلاً، في ظلّ صمت عربي وخليجي وعالمي مبرر، فالجميع يقول لنا: "ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم".

لا شك بأن الضائقة المالية والاقتصادية التي يعيشها لبنان اليوم أثرت بشكل سلبي على حياة المواطنين، فازداد ​الفقر​، وارتفعت نسبة البطالة، وانخفضت القدرة الشرائية لدى المواطنين، واضمحلت الطبقة الوسطى، ولكن رغم كل هذه الضغوطات والمآسي التي يعيشها اللبناني اليوم، ورغم التداعيات السلبية لهذه الأزمة، إلا أن هناك العديد من النقاط الإيجابية التي يمكن أن نتحدث عنها والتي قد تشكل فرصة حقيقية يمكن البناء عليها للمرحلة المقبلة. ومن هذه الإيجابيات:

أوّلاً: تغيير نمط حياة المواطن اللبناني: من المعروف أن اللبناني محبّ للحياة، يعشق السّهر والسّفر وكل ملذّات الحياة، حتى انطبق عليه المثل "بيتديّن لِيتزيّن"، هذا النمط الذي رافق الكثير من اللبنانيين منذ زمن لم يعد صالحاً اليوم، في ظلّ غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، وضعف القدرة الشرائية. كل هذه العوامل اجتمعت اليوم لتغيير نمط حياته سواء في الإستهلاك أو حتى في سلوكه اليومي، ما بدفع بالعديد من اللبنانيين إلى الإستغناء عن الكماليات، والتركيز على أساسيات الحياة على الصعد كافة.

ثانياً: انخفاض فاتورة الإستيراد: يعاني الميزان التجاري في لبنان من عجز سنوي يتراوح بين 17 الى 18 مليار دولار سنوياً، هذا العجز ناتج عن ارتفاع فاتورة الإستيراد السنوية والتي تُقدر بنحو 20 مليار دولار سنوياً، مقابل صادرات خجولة لا تتجاوز عتبة الـ 3 مليارات دولار؛ اليوم ومع اشتداد ​الأزمة المالية​، انخفضت فاتورة الإستيراد حتى شهر أيار الماضي إلى نحو 50 % مقارنة مع السنوات الماضية، ومن المتوقع أن يصل حجم الإستيراد مع نهاية العام إلى نحو 10 مليارات دولار.

ثالثاً: الإهتمام بالقطاعات الإنتاجية: شكّلت الأزمة الحالية فرصة حقيقية لعودة القطاعات الإنتاجية إلى العمل مجدداً خصوصاً القطاع الصناعي، الذي كان رائداً في فترة ما قبل الحرب، واليوم هناك فرصة حقيقية لإحياء الصناعات الوطنية من جديد، وربما تصديرها إلى الخارج، مما يساهم في تدفق العملة الصعبة إلى لبنان، الأمر ذاته ينطبق على القطاع الزراعي، خصوصاً وأن هناك برامج تُحضر من أجل النهوض بهذا القطاع مجدداً.

رابعاً: توقّف ​المصارف​ عن ​إقراض​ الدولة: لا شك بأن هذه الأزمة قد انعكست سلباً على ​القطاع المصرفي​، الذي توقف عن إقراض الدولة - كما كان يفعل سابقاً - وبدأ بتنظيم نفسه بعد الخسائر المتتالية التي طالته منذ 17 تشرين الماضي، وقد تم تشكيل لجنة متخصصة من أجل إعادة هيكلة المصارف خصوصاً المتعثرة منها.

خامساً: تغيير نمط الأداء السياسي في لبنان: رغم أن هذه الخطوة لم تكتمل معالمها بعد، إلا أنه يوجد إجماع دولي وعربي بضرورة تغيير نمط الآداء السياسي السائد في لبنان والبدء بالإصلاحات الحقيقية في المجالات كافة، كي يتمكن العالم من مساعدتنا، ومن دون هذه الخطوة لبنان لن يحصل على أي مساعدة.

سادساً: شعور الناس ببعضهم البعض: سمحت هذه الأزمة للبنانيين أن يتكاتفوا لمساعدة بعضهم البعض في ظلّ غياب شبه تام للدولة، ولتشريعات المجلس النيابي التي من شأنها حماية الفقراء خصوصاً لناحية ​الإيجارات​ وكيفية دفعها، إذ قام العديد من الأشخاص بمبادرات فردية خصوصاً لناحية مراعات الآخرين، واستمر العديد من أصحاب الشقق والمحال التجارية بقبض الإيجارات المستحقة على سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، والبعض لجأ إلى إعفاء المستأجرين عن شهر أو أكثر، أما البعض الآخر فلجأ إلى توزيع حصص غذائية، وأموال نقدية على المحتاجين.

هذه الإيجابيات يمكن أن تشكّل اليوم منطلقاً جديداً للاقتصاد اللبناني يمكن البناء عليه شرط مراعاة الأمور التالية:

أولاً: أن يستمر المواطن اللبناني بتغيير نمط حياته بما يتناسب مع مدخوله الشهري، وأن يبتعد عن الترف الذي رافقه طيلة السنوات الماضية، وأن يلجأ إلى دعم المنتجات اللبنانية والصناعات المحلية. هذه الخطوة من شأنها أن تخفّض فاتورة الإستيراد من جهة، وتعزز قدرة المواطن الشرائية من جهة ثانية.

ثانياً: هناك فرصة حقيقية اليوم لتحويل العجز في الميزان التجاري إلى فائض عبر الاستمرار في تخفيض فاتورة الإستيراد، من ثم تعزيز التصدير إلى الخارج، خصوصاً المنتجات الزراعية وبالمواصفات العالمية، فضلاً عن ضرورة إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية والبدء بتطبيق قانون المعاملة بالمثل، الذي من شأنه حماية المنتجات والصناعات اللبنانية.

ثالثاً: كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج. لا شك بأن النموذج الأوّل، من شأنه أن يعزز قدرة ​الاقتصاد اللبناني​ ويخفض فاتورة الإستيراد كما ذكرنا سابقاً، ولكن هذا لا يعني أن نستغني عن القطاع المصرفي الذي كان ولايزال الركيزة الأساسية للاقتصاد، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع السياحي الذي كان ولا يزال يشكّل مصدراً رئيسيّاً للدخل (وتحديداً العملة الصعبة) و​التوظيف​.

رابعاً: شهد لبنان في الفترة الأخيرة صراعاً قوياً بين الطبقة السياسية من جهة والقطاع المصرفي من جهة أخرى، إذ إن الطبقة الحاكمة تريد تحميل خسائر الدولة إلى القطاع المصرفي -  هذا غير منصف -  فالجميع يعلم أن المصارف ساهمت في السنوات الماضية في دعم القطاعات كافة، هذا فضلاً عن القطاع العام عبر إقراض الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة لتمويل الأفراد، لذلك على الطبقة السياسية المحافظة على القطاع المصرفي، والتعاون معه من أجل ​إنقاذ​ البلد.

خامساً:  منذ عام 2001 و​المجتمع الدولي​ ينتظر من لبنان أن يقوم بالإصلاحات في المجالات كافة وتحديداً في القطاع العام، واليوم وبعد نحو 20 عاماً من المطالبات الدولية والعربية توقف الدعم نهائياً وتوقفت القروض و​المساعدات​ والهبات، والجميع ينتظر من لبنان خطوات إصلاحية بعد أن وصلنا إلى الدرك الأسفل في المجالات كافة.

سادساً: على الرغم من تكاتف معظم اللبنانيين في محنتهم، إلا أن هذا التكاتف لا يبرر غياب الدولة من حيث التشريعات والقوانين التي من شأنها حماية المواطن بالحد الأدنى من عمليات الإستغلال التي تتم يومياً تحت حجة ارتفاع الدولار وفقدانه، خصوصاً لناحية الإيجارات والعقود وتجار المولدات الذين يستغلون حاجة الناس إلى الكهرباء في ظلّ تقنين وصل إلى نحو20 ساعة في اليوم، لذلك على المجلس النيابي التحرك وسن القوانين بما يتناسب مع حماية المواطنين في هذه الظروف الاستثنائية من تاريخ لبنان.

لذلك على المسؤولين اليوم الإستفادة من ​الأزمة الاقتصادية​ التي تعصف بلبنان، لبناء أرض صلبة يمكن الانطلاق منها نحو مستقبل أفضل. فهذه فرصة قد لا تعوّض!