نص مقتطف من كتاب جمهوريتي

ما كان للدولة ال​لبنان​يّة، أن تستقلّ أو تستمر لولا الميثاق الوطنيّ عام 1943، الذي جاء تجسيدًا لتسوية ميثاقيّة بين اللبنانيّين المسيحيّين والمسلمين، اعتمدت للتوفيق بين جماعات متباينة التطلّعات، على قاعدة الالتزام المتبادل بثوابت ومسلّمات اعتبر التقيّد بها شرطًا أساسيًا للمطالبة باستقلال وطنهم وللعيش معًا.

تناول هذا الميثاق، تأكيد أحاديّة الانتماء الوطنيّ، والنأي عن النزاعات والصراعات الإقليميّة. لذلك ضُمّنَ الميثاق بندًا مكرَّسًا لحياد لبنان، جاء على ذكره الأستاذ باسم الجسر في كتابه "ميثاق 1943"، نقلًا عن نصّ الوثيقة التي كتبها المؤرّخ يوسف ابراهيم يزبك وراجعها الرئيس الشيخ بشارة الخوري، وأكّد في مذكراته دقّة معانيها. وفيما يلي النص الكامل للميثاق:

 1- ليس لبنان وطناً للمسيحيين وحدهم ولا للمسلمين وحدهم، إنه وطن العيش المشترك للطرفين اللذين يمثلان جناحي الوطن، على قدم المساواة، مع ما يعني ذلك من مشاركة في الحكم والقرار.

2- يتخلى المسيحيون عن أية مطالب بحماية أجنبية، ويرتضي ​المسلمون​ بالكيان اللبناني، بحدوده الحاضرة كياناً سيد اً مستقلا دائم اً، تنبع سياسات دولته وقراراتها من مصالح شعبه العليا.

3- ينتمي لبنان إلى الأسرة العربية، وسيكون عضو اً مؤسس اً في ​جامعة الدول العربية​، ولن يكون للاستعمار ممرا أو مقراً ضد أشقائه العرب، وهو إذ يتضامن مع الصالح العربي تضامن كاملا، ينأى عن الدخول في سياسات المحاور التي يمكن أن تتجاذب الأقطار العربية في ما بينها.

هذا الميثاق الذي أسّس للاستقلال، ضَمّن فقراته الثلاث المسلّمات والتفاهمات التي التزمها المؤسسون وجاراهم سائر اللبنانيين لتأكيد رغبتهم في العيش معًا والمساواة في ما بينهم، والاعتراف بتعدديّة اجتماعهم، شرط التزام الأطراف النأي عن التجاذبات والصراعات التي قد تعصف بالعالم العربيّ بغية صون وحدتها وتضامنها، وتأكيدًا لخيارها بكون الولاء للعيش معًا يتقدَّم على أيّ ولاء آخر. وهنا لا بدّ من التوقّف عند الملاحظات الآتية:

- حصل إجماع وطني فريد على اعتبار هذا الميثاق عقد اً ملزماً مستداماً، ارتضاه الشعب اللبناني مرجعية تعاقدية لسياسات قياداتهم الوطنية من أجل قيام دولتهم المستقلّة والمحررة من وباء الاستتباع الطائفي والمذهبي للخارج للاستقواء على اللبناني الآخر في الداخل.

للدكتور ​نزار يونس​ الصادر في عام 2016– صفحة 21

- لم تعلن أيّ من الجماعتين تراجعها عن التزامها التخلّي عن الحماية الأجنبيّة لقاء الاعتراف بنهائيّة الوطن اللبنانيّ وسيادته، كما جاء في البند الثاني من الميثاق.

- أمّا البند الثالث من الميثاق المعبّر عن ضرورة نأي الجماعات اللبنانيّة عن التجاذبات الإقليميّة، فقد تحول سريعًا حبرا على ورق. وأدّى التنكّر له مداورة من جميع المتحاصصين ومعارضيهم على حدّ سواء، إلى اهتزاز الوحدة الوطنية وانتشار الفوضى واندلاع الفتن خصوصًا في الفترة التي تلت اتفاق القاهرة في العام 1969.

لقد أراد الشعب اللبناني هذا الميثاق، الذي أتاح استقلال بلاده، تسوية تاريخية بين اللبنانيين، قضت بالحياد بالنسبة الى التجاذبات بين المحاور الخارجية، كمرتكز لسيادة القرار الوطني وللاستقلال. واللافت أنه بقدر ما كانت هذه الالتزامات تُحترم في سياسات الحكم الداخلية والخارجية -بشكل خاص- كانت البلاد تنعم بالطمأنينة والإزدهار، وبقدر ما كانت تهتز بتأثير سياسات الهيمنة والانحياز للمحاور في الخارج، كانت الوحدة الوطنية تتمزق وتدبّ الفوضى وتندلع الفتنة كما حصل قبيل ثورة عام 1985، وتكراراً، في ما بعد، كلما عمدت المواقع الطائفية المتحاصصة في الداخل الى الاستقواء بالخارج لفرض هيمنتها على الآخر في الداخل.

ومن الراهن أن تنكّر الفئات المذهبيّة والطائفيّة جميعها، لمسلّمات الميثاق الوطنيّ الملزم، قد أدى إلى زعزعة أسّس الوحدة الوطنيّة، والى تعدّد الولاءات وتعارضها وتضاربها. كما قد أدى إلى زعزعة الثقة بصدقيّة هذه الفئات والتزامها ميثاق العيش معاً، مما وضع البلاد على شفير الانهيار، وزجّ قوى متآمرة أو طامعة في مغامرة تفكيك الوطن أو شرذمته. ولولا متانة العرى الحياتيّة التي جمعت اللبنانيّين الرافضين للتطيّف، لما تمكَّن هذا الكيان المعتلّ من الصمود حتى اليوم.

في بداية الستينات، كان لبنان بحقّ "​سويسرا​ الشرق" إذ كان فيه، مقارنة بكل دول المنطقة، أعرق الجامعات ودور النشر والمنتديات الثقافية، وأحدث مطار وأكبر ​مرفأ​ وأهم شركة طيران، وأفضل شبكة طرق، وأرقى المرافق السياحية، فضلاُ عن مصابّ ​النفط​ والمصافي وخطوط المواصلات مع الخارج. الزارعة والصناعة كانت ناشطة ومؤهلة للتطور. وكان متوسط دخل الفرد حينذاك، بالعملة الثابتة، يتجاوز ضعفي ما أضحى عليه في عام 2018. كان لبنان، بحقّ، من دول العالم المتقدم، وكان اللبناني مُميزاً ومُحترم اً أينما حلّ ورحل.

من الراهن، أنَّ في حياد لبنان، الوطن التعدّدي المسالم، مصلحة لشعوب المنطقة التي تعاني ​الحروب​ والصراعات، لحاجتها إلى ساحة عاقلة وآمنة للتواصل في ما بينها أو للالتقاء. كما أنّها في حاجة إلى ​فضاء​ فكري واجتماعيّ يوفّر لها ما قد يخفّف آلامها وحرمانها، إذ إنّ ممارسة مثل هذا الدور بنزاهة وموضوعيّة وشرف قد تكون أجدى في معالجة الصراعات التي تقضّ منطقتنا، وشعوبنا، وبشكل خاص:

- المأساة السوريّة، الدولة الشقيقة والجارة، واصطفاف الجماعات اللبنانيّة وانجرارها إلى الحلبة اللعينة من منطلق مذهبيّ.

- الصراع الوجوديّ على المنطقة بين ​إيران​ ومعسكرها من جهة، والسعوديّة ومعسكرها من جهة أخرى، وانخراط فئات لبنانيّة في هذا الصراع من منظور مذهبيّ، مما ساعد على تمدّد الفكر الظلاميّ والتكفيريّ إلى بلدنا.

- إنّ الالتزام النزيه والدقيق بالميثاق الوطنيّ وبالحياد الملازم له هو وحده الذي يقينا شرّ انغماسنا في التوتّرات والصراعات التي تغيّب دورنا وتقزّم رسالتنا. يجدر التوضيح أنّ هذا الحياد الملزم لا ينسحب على مأساة الشعب الفلسطيني في مواجهة ​العنصرية​ الصهيونية الهمجية.

لبنان، لم يكن يوماً أعظم وأنبل من يوم كان فيه وطن الثقافة، وموطن الأحرار ومقاومي الجهل والتعصب والاستبداد في دنيا العرب. عندما كانت بيروت حاضرة العالم المشرقي وجامعته ودار نشره ومركز انبعاث نهضته في الفكر والفن والشعر والغناء. وعندما كانت تخاطب العرب بلسان عربي فصيح، وتحاور الغرب بلغاته وفكره. كانت تلك الحقبة العهد الذهبي للثقافة وللحرية في لبنان، للبنانيين أنفسهم ولسائر النخب العربية. ولو بقي هذا اللبنان بلد الحرية والثقافة، لما تمكّن الصهاينة من البقاء في فلسطين.