سبق وحذرنا من استمرار الانقسام اللبناني في المحادثات الجارية مع "​صندوق النقد الدولي​" الذي أضعف موقفنا التفاوضي منذ البداية، كما سبق وحذرنا من أن مهمة الصندوق هي المساعدة المالية وليس التحكيم السياسي.

وقع المحظور وسئم المفاوضون الدوليون منا، وأعلنوا صراحة أن النزاع على الأرقام بين الحكومة من جهة و​مصرف لبنان​ وجمعية ​المصارف​ ولجنة المال والموازنة من الجهة الثانية، هو نزاع بلا جدوى لأن الصندوق الذي سيدفع المال هو الذي سيحدد هذه الخسائر في نهاية المطاف.

لا شك أن النخوة الوطنية عند كثيرين ستنتفض على هذا التدخل الخارجي في شؤوننا الداخلية، وهذا حق، ولكن يراد به باطل عند المتنازعين، فباب التدخلات فتح على مصراعيه عندما قرر القيمون على الحكم نشر الغسيل الوسخ على السطوح رداً على قرار أحدهم زج المجلس النيابي في معركة التنافس على الزعامة، من جهة، ومعركة الخيارات المطروحة لمعالجة الأزمة.

هناك خطتان للانقاذ المالي لا خطة واحدة، وهذا بذاته مشكلة، ولكن لنتجاوز الشكليات وننظر في فلسفة كل من الخطتين، الأولى أعدتها الحكومة (وهي كما تبين لاحقا ليست هيئة واحدة منسجمة بدليل الاستقالات في فريقها المالي)، وتحدد خسائر النظام المالي برقم معين، وتعتبر أن المصارف وكبار المودعين معنيون بتغطية القسم الأكبر من هذه الخسائر، من خلال إلغاء قسم كبير من الدين، وهو ناتج عن تراكم الفوائد. أما الخطة الثانية فهي للمصارف نفسها، وتقضي بإنشاء صندوق لأصول وممتلكات الدولة، والتي سترهن مقابل دين جديد مقداره 40 مليار دولار، يستخدم لتغطية الخسائر السابقة.

هنا برز الخلاف على حجم الخسائر، فكان من مصلحة الحكومة تكبيره، ومن مصلحة المصارف تصغيره. وبين التكبير والتصغير برزت مسألة هامة، تتعلق بطبيعة الخسائر، وليس حجمها فقط، والسؤال هو كيف وعن ماذا نتجت هذه الخسائر؟ فإذا كانت نتاج إسراف الدولة في الانفاق السياسي والصفقات الفاسدة، فيترتب عليها تحمل الخسائر اليوم، أما إذا كانت نتيجة الاقتراض والفوائد الباهظة والهندسات المالية فينبغي على من استفاد منها تحمّل الخسائر.

يبدو أن "صندوق النقد الدولي" الذي ظل وطوال فترة الكباش الداخلي يجزم أن أرقام الحكومة هي الأدق، لأنها تشمل كل شيء، خسائر الانفاق وخسائر الهندسات المالية، حسم أمره بتحميل الجميع المسؤولية ونحن على عتبة المرحلة ما قبل الأخيرة من المفاوضات، أي مرحلة ما قبل اتخاذ القرار، ليقول الصندوق إنه سيعتمد أرقامه الخاصة، فهو الأدرى بما يجري عندنا.

قديما قيل أهل مكة أدرى بشعابها، ولكن الشعاب اللبنانية وعرة لدرجة أن اللبنانيين أنفسهم لا يعرفونها، أو بالأحرى يتجاهلونها.

النقاش اللبناني سياسي، وإن دار حول الخيارات المالية. لا نحتاج إلى خبير عالم ومخضرم لنعرف منه أن ​السياسة المالية​ المعتمدة منذ عقود هي التي أوصلت البلد إلى الخراب: إنفاق مفتوح بلا قيود، واستدانة متعاظمة، وفوائد باهظة لم يشهد لها عالم المال والأعمال في تاريخ العالم مثيلا.

واليوم الخيار هو بين وقف مسلسل الاستدانة وبين المزيد منها، بين محاولة النهوض بالاقتصاد من خلال تحويله إلى منتج، ولو استغرقت العملية سنوات، وبين البقاء في الحلقة المفرغة.

بإمكان السياسيين اللبنانيين هدر المزيد من الجهد والوقت في النقاش العقيم حول المسؤول سياسيا عن الأزمة، ولكن لن يصدقهم أحدا، فما يشغل بالهم هو تصفية الحسابات السياسية من ناحية، وحماية كبار ​حيتان​ المال الذين يمولونهم، من ناحية ثانية.

لا اللبنانيون، وخصوصا المودعون الذين خسروا جنى أعمارهم بانهيار سعر صرف الليرة سيصدقونهم، ولا المؤسسات الدولية، التي قد تتدخل للمساعدة.

أما طرفا النزاع، الحكومة والمصارف، فثمة أسئلة كثيرة، ينبغي عليهما الإجابة عليها، حتى نتلمس الجدية في مقاربة الأزمة، وبالتالي معالجتها:

بالنسبة للحكومة السؤال الأهم هو عن سعر الصرف، فمن الواضح أنها تخلّت عن الليرة المنهارة، وثمة حديث مؤكد عن أن تثبيت سعرها لو حصل فسيكون بخمسة آلاف ليرة للدولار على الأقل، ولكن لا شيء رسميا بعد، والمطلوب من الحكومة إعلان نواياها وقرارها في هذا المجال، ولا فائدة من التأجيل وكسب الوقت، فالتأخير يشعل ​السوق السوداء​ وفلتان الأسعار، أما هدر الوقت فسينقلب وبالا سياسيا وأمنيا واجتماعيا عليها، عاجلا وليس آجلا.

بطبيعة الحال فإن هذه الحكومة ليست مسؤولة عن انهيار الليرة، فالمسؤولية تقع على كل الحكومات التي سبقتها منذ العام 1993، والتي أوهمت الناس بأن اللّيرة قوية من خلال تثبيت سعرها على حساب الخزينة التي أرهقت بالديون. الحكومة ليست مسؤولة عن الأزمة، ولكنها مسؤولة بالتأكيد عن معالجتها.

أما بالنسبة للمصارف والتي يقال إنها حققت 28 مليار دولار أرباحا من فوائد الدين ومن الهندسات المالية نتيجة السياسة المالية السابقة، وخصوصا في السنوات العشر الأخيرة، وأن هذه الأموال نقلت إلى الخارج قبل "ثورة 17 تشرين" بكثير، فالسؤال الأهم بالنسبة لنا حول الخطة المقترحة من ​جمعية المصارف​: من أين ستأتي الـ 40 مليار ​الدولار​ للاكتتاب صندوق الأصول المقترح، وهل ستستثمر المصارف أرباحها الموجودة في الخارج بهذا الصندوق.

وبالمناسبة، سؤال آخر يحرق المواطنين، لماذا هذه المليارات الـ 28 موجودة في الخارج؟

لسان حال المواطن المفجوع على ليرته يقول: لو افترضنا إن هذه المليارات وضعت في مصرف لبنان كوديعة لمدة ثلاث سنوات، بفوائد معقولة، أليست كافية لتقوية احتياطاته لتمكينه من وقف انهيار العملة الوطنية وانزلاق اللبنانيين نحو ​الجوع​.