ليس مستغربا كيف أن ​قطار​ المحادثات القائمة مع "​صندوق النقد الدولي​" لا يخلو من المناكفات السياسية بين المسؤولين اللبنانيين؛ فالمشكلة ليست فقط في الأرقام المرفوعة الى الصندوق من قبل الحكومة من جهة، ومن ​مصرف لبنان​ وجمعية ​المصارف​ من جهة أخرى، ليتقدمها ما توصّلت إليه أخيرا لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن لجنة المال وال​موازنة​ برئاسة النائب إبراهيم كنعان من أرقام ومقاربات لأخرى تقريبية سترفع إلى ​مجلس النواب​ لإجراء المقتضى.

الأرقام الملحوظة من الحكومة ليست خاطئة، ولكنها بنيت وفق مقاربة مختلفة، وفق النائب إبراهيم كنعان الذي حرص على تأمين وصول الملف الى خواتيمه المقبولة. وبالتأكيد، إن مجلس النواب سيتبنى ورقة اللجنة، سيما وأنه ليس هناك خطة "ب" بديلة عن "صندوق النقد الدولي".

بالأمس القريب، انتفضت جمعية المصارف في مواجهة خطة الحكومة مطلقة سلسلة "لاءات" توّجها رئيسها سليم صفير بـ" لا للـ Haircut... ، لا للاقتطاع من القيمة الإسميّة لسندات الدولة...، لا للتوقف عن الدفع للدائنين المحليين..."، من دون أن يتردّد في الجزم بأن "مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف هما المسؤولان عن التدقيق في ​القطاع المصرفي​"، مطمئناً إلى أن "المصارف تتحمّل أي خسائر محتملة في محفظة الدين، على ​القطاع الخاص​".

وقدمت خطة بديلة سمّتها "مساهَمة لإنجاح خطة الحكومة"، تلافيا لأي ضغط كبير على الجوّ. ورغم الأجواء الملبدة التي شابت العلاقات بين الطرفين منذ كشف الحكومة عن خطتها، عادت الاتصالات إلى مجاريها الطبيعية في الأسبوع الأخير، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ​الاقتصاد اللبناني​ لا ينهض بدون هذا التوافق السياسي – المصرفي، وتقدم محرز للاعتبارات المتعلقة بأهمية دور مصرف لبنان في رسم أي سياسة مالية إلى جانب دور لجنة الرقابة على المصارف في التدقيق في وضعية القطاع المصرفي.

آخر تصريح لـ "صندوق النقد" جاء عبر تغريدة للمتحدث باسمه غاري رايس جاء فيه: "تتحدث تقارير إعلامية عن تقديرات لخبراء "صندوق النقد الدولي" حول خسائر القطاع المالي في لبنان. للتوضيح، وكما أشرنا سابقاً، تتوافق تقديراتنا بشكل عام مع تلك الواردة في خطة الحكومة. ويجب أن تكون الحلول سريعة وفعالة وعادلة وطويلة الأمد".

ما هي الرسالة التي وجّهها الصندوق إلى اللبنانيين؟

يقول رئيس لجنة الشؤون الخارجية وعضو لجنة المال و​الموازنة​ النائب ​ياسين جابر​ لـ "الاقتصاد"، إن "هناك إصراراً لدى فريق لبناني معني بالتفاوض مع "صندوق النقد الدولي" على إرسال مؤشرات سلبية للصندوق. وما سمعناه من تغريدة أخيرة لمسؤول في الصندوق حول الأرقام إنما مصدره هذا الفريق المعطّل".

ويعتبر جابر، أن "الأرقام ليست مهمة. وتدّخل المجلس النيابي عبر لجنة المال والموازنة جاء نتيجة تعثّر المفاوضات مع الصندوق. كانت هناك مشكلة حقيقية في سير المحادثات، وكان من الواجب تحسين الأداء".

ويضيف: "كان من الواجب معرفة من هي الأطراف التي يحق لها التفاوض مع الصندوق، إذ لا يجوز استبعاد أي فريق معني".

ويقول جابر: "منذ شهر، بدأنا كلجنة مال وموازنة اجتماعاتنا من أجل مناقشة الأرقام المتباينة والمقدمة إلى الصندوق، بشكل سري وبعيدا عن الإعلام، بهدوء ووفق أسلوب علمي. كان الهدف تقريب وجهات النظر بين ما طرحته الحكومة من أرقام وما طرحه كل من مصرف لبنان وجمعية المصارف من جهة أخرى".

ومن أهم الأرقام التي كشفت التباين، تخفيض لجنة المال والموازنة الآتي:

* قيمة خسائر القروض المتعثرة من 40 ألف مليار ليرة كما قدرت في خطة الحكومة، إلى 14 ألف مليار، بعد مراجعة لجنة الرقابة على المصارف، التي أكّدت أنّ خطة الحكومة لم تأخذ في الاعتبار أنّ 53 % من القروض المتعثرة تقابلها ضمانات، وبالتالي لا يمكن اعتبارها متعثرة. وبالتالي، يكون حجم الخفض في الخسائر قد بلغ 36 ألف مليار ليرة.

* هناك 66 ألف مليار ناتجة عن خسائر في ميزانية مصرف لبنان نتيجة الفجوة في تراجع الليرة، ليتبيّن أنه بعد التفاوض مع مصرف لبنان الرقم الصحيح هو 4 آلاف مليار بعد احتساب الموجودات التي يملكها مصرف لبنان من احتياطي ​ذهب​ وعملة مطبوعة لدى المركزي لم يتم توزيعها "Seigniorage" تقدر بـ 9 آلاف مليار إلى جانب ممتلكات مثل الميدل إيست تقدر بـ 6 آلاف مليار وغيرها.

إلى جانب ذلك، جرى احتساب تقديرات ​الناتج المحلي​ في 2020 عند 26 مليار دولار من خلال تحويل حجم الناتج إلى الليرة اللبنانية على سعر صرف الـ 1500 ليرة وإعادة تحويلها الى الدولار على سعر صرف الـ 3500 ليرة. وبعد مطالبة مديرية الإحصاء المركزي، بتقدير نسبة الناتج المحلي الإجمالي للعام 2020 وفقاً للبيانات المتوفرة، أفضت التقديرات عن عدم امكانية تراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي عن 33 مليار دولار.

كما أنه في موضوع اقتطاع نسبة 40 % من ​سندات الخزينة​ بالليرة اللبنانية، فهذا غير قانوني خصوصاً بعد فقدان السندات 65 % من قيمتها، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة. وهذا خفّض حجم الخسائر الاجمالية في خطة الحكومة بنحو 26 ألف مليار ليرة.

واعتبر جابر أن "الخطة هي نتيجة استعجال مع غياب الخبرة الوافية في التفاوض مع "صندوق النقد الدولي"، بعيدا عن أي تنسيق مع "المركزي" والمصارف، وهنا المسؤولية تقع على عاتق أصحاب القرار السياسي وليس على الفريق الاستشاري".

ولا يجب التغاضي عن الجهات الرسمية المخوّلة في التعاطي مع هذه المؤسسات الدولية؛ كوزير المال مع ​البنك الدولي​ وحاكم مصرف لبنان مع "صندوق النقد".

ويضيف: "لم يأت المجلس النيابي بخطة، ولكن للمساعدة. وأظن أن الحكومة أصبحت اليوم أكثر تفهّماً وأكثر استعدادا للتعاون. قطعنا مرحلة التعثّر في المحادثات مع الصندوق، وتقديم الآراء المتباينة. وهذا يذكرنا بفيلم "Man in the room" وبمرحلة التفاوض الصعبة التي أجراها الصندوق مع ​اليونان​".

وقال النائب ياسين جابر، إنه " في مثل ظروف مماثلة مصيرية لا يمكن استبعاد الآخرين المعنيين. فرغم غروره، طلب الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ موافقة وزير الخزانة ستيفن منوتشين على إرسال أموال بصورة مباشرة إلى الأميركيين في إطار خطة تحفيز اقتصادي بقيمة تريليون دولار لمواجهة تبعات أزمة وباء "كورونا"."

وكرر جابر، أن "الأرقام ليست المشكلة. إنما ما نحتاجه هو خطة إصلاحية حقيقية تطبق على الأرض. وحتى تاريخه، لم نلمس أي تغيير في النهج المتبع انطلاقا من ملف سلعاتا إلى التعيينات المالية والقضائية...

وأشار جابر، إلى أنه "كرئيس للجنة الشؤون الخارجية عقد أكثر من لقاء مع ممثلي "صندوق النقد الدولي" في واشنطن بهدف مساعدتنا في الحصول على المساعدة التقنية. والحوار مفتوح دائماً مع الصندوق. ولا يجب أبداً التخفيف من أهمية التفاوض مع هذا الصندوق الذي رفضه البعض في البدء ثم هرع إليه، لأنه مفتاح لأي تمويل آخر ممكن أن يحصل عليه لبنان من أي جهة أخرى، وحتى ​الصين​ التي لا يمكن التحّدث إليها إلا من خلاله.

لذا حان الوقت للحصول منه على برنامج واضح لبدء عملية التغيير وحل ​الأزمة المالية​".

الإصلاحات والفشل

عبارة "ضرورة إجراء الاصلاحات فورية "وردت كثيراً على لسان أكثر من جهة دولية أوصى بها المسؤولون اللبنانيون الذين بدورهم تنّصلوا منها ليحمّلوها لخَلَفِهم، لتبقى المعجزة في اقتناع الجميع بأن الإصلاحات عملية ​إنقاذ​ وإنعاش ملحّة يتحمّل عواقب تفشيلها من يتصدى لها تحت أي ذريعة يختبىء وراءها. وللأسف، فالكيديات السياسية تتحكم اليوم بمصير مصادر الانفراجات الاقتصادية".