من منّا لم يسمع بالتجاوزات التي تُمارس بحق المودعين من قبل بعض ​المصارف​، ومن منّا لم تصادفه مشكلة مع مصرف ما، وذلك بسبب الاجراءات التي اتخذتها المصارف بعد أحداث 17 تشرين الأول الماضي وما رافقها من تداعيات.فالجميع يعلم ان ​القطاع المصرفي​ اللبناني ليس على ما يرام، وان ما قبل 17 تشرين ليس كما بعده، الا ان الحديث عن الاستغناء عن هذا القطاع وضربه- ربما عبر تقليص حجمه - هو سابقة خطيرة في لبنان.

فإذا عدنا الى لغة الأرقام نلاحظ انه في آوخر العام 2019، تخطت موجودات المصارف اللبنانية عتبة الـ 200 مليار دولار، أي ما يوازي أربعة أضعاف ​الناتج المحلي​ الإجمالي للدولة، وهذا الرقم ان دلّ على شيء انما يدلّ على متانة هذا القطاع الذي يضم اليوم حوالي 62 مصرفاً، وأكثر من 1000 فرع في المناطق اللبنانية كافة، يعمل فيها نحو 26 الف موظفاً، هذا فضلاً عن انتشار واسع في اكثر من 30 دولة عربية وأجنبية.

اذاً، يُعتبر القطاع المصرفي الركيزة الأساسية للاقتصاد اللبناني، فهو الرافد الأساسي لخزينة الدولة، اذ تُساهم المصارف بنحو 60% من ايرادات الخزينة من الضريبة على الأرباح، كما تساهم بـ 33% من ايرادات الخزينة من الضريبة على الأموال المنقولة، وتساهم أيضاً بـ 20 بالمئة من ايرادات الخزينة من الضريبة على الرواتب و​الأجور​، هذا فضلاً عن ان القطاع المصرفي هو القطاع الوحيد الذي يُصرّح عن دخله الحقيقي وعن ارباحه، ويدفع ضرائبه بالكامل.

سواء اتفقنا ام اختلفنا على طريقة آداء القطاع المصرفي في السنوات الماضية، الا ان هناك اجماع شبه تام على أهمية هذا القطاع الذي كان ولايزال الممول الأساسي للدولة، وللقطاع الخاص وللمؤسسات وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد، خصوصاً وان حجمه فاق حجم ​الاقتصاد اللبناني​ بأضعاف وأضعاف، ما جعله ملاذاً آمناً لرؤوس اموال كثيرة من البلدان كافة وتحديداً من ​الدول العربية​.

على الرغم من متانة هذا القطاع وصلابته، الا انه دخل مع الأسف في مرحلة الاستنزاف عقب انطلاق ثورة 17 تشرين الماضي وما رافقها من أحداث أدت الى اقفال المصارف في المناطق اللبنانية كافة لأسابيع، وتوقفت معها العجلة الاقتصادية التي كانت ولا تزال تعتمد بشكل مباشر على القطاع المصرفي، وتحولت المصارف بسرعة البرق من ممول أساسي للقطاع الخاص والمؤسسات والأفراد، الى صناديق يسحب منها المودعون اموالهم وفقاً للاجراءات التي اتخذتها المصارف.

كل هذه الخطوات أدت الى تراجع حجم الودائع في القطاع المصرفي بنحو 25 مليار دولار اميركي في الفترة الممتدة من ايلول 2019 حتى نيسان الـ 2020، وكذلك الأمر بالنسبة للتسليفات المصرفية التي تراجعت بدورهاالى نحو 6 مليارات دولار في الأشهر الأربع الأولى من الـ 2020، وتوقفت معها القروض المصرفية بكافة أشكالها، وقد انعكس توقف هذه القروض سلباً على معظم القطاعات، لأنه كما هو معلوم فان اي خلل في ​المصارف التجارية​ يُحدث خللاً في الاقتصاد القومي وفي رفاهية الناس، وهذا ما حصل اليوم في لبنان.

يُجمع بعض الاقتصاديين اليوم على وجود مخطط مُسبق لتغيير هوية الاقتصاد اللبناني، عن طريق ضرب القطاع المصرفي من خلال شنّ الحملات المتواصلة عليه، وتحميله وحده مسؤولية ما آلت اليه البلاد، والترويج لفكرة اعادة هيكلة القطاع وتقليص حجمه، هذا فضلاً عن الحديث الدائم عن انشاء 5 مصارف جديدة في لبنان.

لا شك بأن الحديث الدائم عن ضرورة تقليص حجم ​القطاع المصرفي اللبناني​، ادى الى تبخر ما تبقى من ثقة ليس بالمصارف فحسب، انما بالاقتصاد ككل - مع العلم ان حجم القطاع الحالي يجب ان يكون مصدر قوة للاقتصاد وليس مصدراً للانتقاد والهجوم وتصفية الحسابات - والجدير ذكره، انه من يستطيع ان يحدد حجم القطاع المصرفي هي ديناميكية الأسواق، الأوضاع الاقتصادية، التنافس بين المصارف، مجالس ادارة المصارف، والمساهمين في المصارف من خلال ​الجمعيات العمومية​، وليست الطبقة السياسية.

من المؤكد ان المصارف لا تريد المواجهة مع اي فريق سياسي ولا مع الطبقةالحاكمة لأن اولوياتها اليوم تكمن، في انعاش الاقتصاد اللبناني، الحفاظ على رأس مالها قدر المستطاع، وحماية الودائع، ومن هذا المنطلق على السياسيين المحافظة على هذا القطاع الأساسي، حتى وان كان هدف الحكومة اليوم هو الانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج، على اهمية الأخير، الا ان هذا الأمر يتطلب خططاً ودراسات وبناء معامل ومصانع وتأمين مواد اولية، ولتنفيذ كل ذلك، يجب ان يكون لدينا قطاعاً مصرفياً قوياً. فمن من مصلحة من ضرب هذا القطاع؟

في الحقيقة، لا يمكن اعادة العجلة الاقتصادية في لبنان، الا من بوابة القطاع المصرفي الذي يُعد الشريان الأساسي للاقتصاد اللبناني، وهذا الأمر يستوجب اعادة الثقة بهذا القطاع، من خلال صدمة ايجابية بالتعاون مع ​مجلس الوزراء​ الذي يجب عليه ان يتحمل مسؤولاياته، والبدء بتطبيق الاصلاحات المطلوبة و​المحاسبة​ الحقيقية، كي لا يتحمل القطاع المصرفي وودائع اللبنانيين كلفة ​الفساد​ السياسي الحاصل.