لم تستطع الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي عصفت بلبنان في العقود الماضية من زعزعة ​القطاع المصرفي​، في الوقت الذي لم يسلم أي قطاع من الهزات والصدمات المتكررة. وحدها ​المصارف​ قاومت وصمدت أمام هذه التحديات التي اكسبتها مناعةً في وجه المخاطر كافة، وذلك باعتراف العالم.

هذا القطاع الذي لطالما وقف إلى جانب الدولة مسانداً وداعماً وناصحاً ومنبهاً، ها هو اليوم يتعرض لأعنف الحملات والهجمات السياسية (الداخلية) والشعبية والإعلامية، فهل يتحمل هذا القطاع مسؤولية الانهيار الحاصل اليوم؟ وهل يُدرك اللبنانيون المعنى الحقيقي لانهيار قطاعهم المصرفي؟

يؤكد كبير الاقتصاديين ومدير وحدة الدراسات في بنك "بيبلوس" ​نسيب غبريل​، أن "الحملة على القطاع المصرفي ليست وليدة الساعة، إنما تعود إلى عام 2019، والتي بدأت باستهداف ​مصرف لبنان​ وحاكميته، لتتحول بعدها وتحديداً في أواخر الـ 2019 على المصارف كافة، وذلك لتحميلها مسؤولية الأزمة".

ويضيف: " للأسف، نجحت هذه الحملة، بعد أن التزمت المصارف الصمت أمام تلك الافتراءات، خصوصاً وأنها راهنت في بداية الأمر على وعي الناس وتمييزهم بين التضليل والحملة من جهة، والرأيّ والانتقاد البنّاء من جهة أخرى، إلا أن هذا الأمر لم يحصل، واستمرت الحملات بشراسة أكبر، واليوم بدأنا نلمس نتائجها في مشروع الحكومة الحالي، الذي يُحمّل الجهاز المصرفي بشقيه (المصرف المركزي والمصارف التجارية) وكذلك المودع، كلفة هذه الأزمة، ويشطب بعملية حسابية دفترية رأس مال المصارف. كل هذه الأمور تجري من أجل تجنب تطبيق أي من الإصلاحات الجذرية في ​القطاع العام​ وإعادة هيكلته، وعدم المسّ بالتوظيفات العشوائية الزبائنية التي حصلت في السنوات الماضية، والوظائف الوهمية، وابتعاد الدولة عن التدخل في إدارة القطاعات الحيوية ك​الكهرباء​، والاتصالات، و​المياه​، والنقل العام، وغيرها من القطاعات، وعدم مكافحة التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، إضافةً إلى ذلك، تُحاول الطبقة السياسية الحاكمة كما بات واضحاً اليوم، التهرب من تحملّ أي مسؤولية تجاه الانهيار الحاصل، وتحميلها كاملةً إلى القطاع المصرفي".

يستغرب غبريل، "استبعاد ​جمعية المصارف​ عن القرارات المصيرية التي اتُخذت من قبل الطبقة السياسية في الآونة الأخيرة – مع العلم أنها الجهة المعنية الأساسية في تلك القرارات – على سبيل المثال:

المشاورات الداخلية التي حصلت حول استحقاقات الحكومة الخارجية "اليوروبوند": فقد اتخذت الحكومة في 7 آذار الماضي قرار التخلف عن الدفع تحت الضغط الشعبي والسياسي، حتى وصل بهم الأمر إلى وصفه بالقرار التاريخي، مع العلم أنه كان خطأً تاريخياً، نظراً لغياب أي برنامج تمويلي مع "​صندوق النقد​" للحفاظ على مصداقية هذه الحكومة".

غياب المحادثات مع حاملي سندات "اليوروبوند": عندما تُقرر الحكومات اتخاذ قرار التخلف عن دفع استحقاقاتها، تقوم عادةً بمحادثات مع حاملي هذه السندات، ولكن مع الأسف لم تقم الحكومة بهذه الخطوة مع القطاع المصرفي الذي يُعد من أكبر حاملي هذه السندات.

استبعاد جمعية المصارف عن المشاورات المتعلقة بمشروع الحكومة الإصلاحي الذي سُرب منذ نحو شهرين.

في الفترة ما بين 28 و 30 نيسان أصدرت الحكومة برنامجها المالي النهائي الذي يهدف إلى تخفيض ​الدين العام​ عبر شطب رأس مال المصارف وتحميل المودعين الكلفة، كلّ هذا حصل دون اللجوء إلى الجمعية (المعنية الأساسية بهذا الأمر).

يتابع: "جمعية المصارف لا تريد أي مواجهة مع الحكومة، لأن أولويتها اليوم تكمن في إنعاش ​الاقتصاد اللبناني​، والحفاظ على رأس مال المصارف قدر المستطاع، وحماية الودائع، وبالرغم من كلام الحكومة حول استعدادها للحوار مع الجمعية، إلا أننا لم نلمس حتى هذه اللحظة أي خطوة جديّة بهذا الإطار من قبل المعنيين، فنحن لا نريد اجتماعات مع المستشارين، إنما الاجتماعات يجب أن تكون بين جمعية المصارف من جهة، و​وزير المال​ ومدير عام وزارة المالية من جهة أخرى".

أما بالنسبة للحديث عن إعادة هيكلة القطاع والتوجه إلى إقفال فروع لبعض المصارف، يستغرب غبريل هذا الكلام فضلاً عن بعض التصاريح التي صدرت عن المسؤولين والتي تحدثت عن حجم القطاع المصرفي الكبير - بحسب تعبيرهم - بالنسبة لحجم الاقتصاد اللبناني وأنه يجب تحديد عدد المصارف الموجودة، هذا فضلاً عن مشروع إنشاء 5 مصارف جديدة، كل هذه الأمور أدت إلى تبخر ما تبقى من ثقة بالاقتصاد ككل وليس بالمصارف فقط، لافتاً إلى أن حجم القطاع المصرفي الكبير يجب أن يكون مصدر قوة للاقتصاد وليس مصدراً للانتقاد والهجوم".

ويضيف غبريل: "لا تستطيع الحكومة تحديد حجم القطاع المصرفي أو حتى تقليصه، كون هذا الأمر يعود إلى عوامل عديدة منها: ديناميكية الأسواق، والأوضاع الاقتصادية، والتنافس بين المصارف، ومجالس إدارة المصارف، والمساهمين في المصارف من خلال ​الجمعيات العمومية​، وغيرها من الأمور، أما بالنسبة للسلطة التنفيذية فعليها تأمين المناخ المناسب والبيئة الملائمة للقطاعات كافة من أجل خلق جو من المنافسة في الاقتصاد بشكل عام، يؤدي إلى رفع نسبة النمو، وتوسيع حجم الاقتصاد".

برأي غبريل، "هناك اتجاه لتغيير هوية الاقتصاد اللبناني، وهذا أمر خطير وغير مسبوق في لبنان، هذه الهوية التي لطالما ساعدت لبنان في مواجهة التغييرات في المنطقة، فضلاً عن الخضّات السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية منذ عشرات السنوات، فبدل أن تبتعد السلطة التنفيذية عن احتكار وإدارة قطاعات حيوية مثل الكهرباء، والاتصالات، والمياه، وترك إدارة هذه القطاعات لأصحاب الاختصاص، وأن تُحافظ الدولة على ملكية هذه القطاعات، وتشرف عليها من خلال هيئات ناظمة مستقلة، نراها تسلك الاتجاه المعاكس، وهذا الأمر كان واضحاً بمشروع الحكومة الأخير، من خلال وضع يدهم على القطاع المصرفي، وهذا بطبيعة الأحوال سطو غير مسلح على ودائع الناس".

يتابع: "يعمل في القطاع المصرفي اليوم نحو 26 ألف موظف، أي هناك 26 ألف عائلة لبنانية تعتاش من هذا القطاع، هذا فضلاً عن أن القطاع المصرفي هو القطاع الوحيد الذي يصرّح عن دخله وعن أرباحه ويدفع كامل ضرائبه، وللتذكير تساهم المصارف بنحو 60 % من إيرادات الخزينة من الضريبة على الأرباح، كما تساهم بـ 33 % من إيرادات الخزينة من الضريبة على الأموال المنقولة، وتساهم أيضاً بـ 20 % من إيرادات الخزينة من الضريبة على الرواتب و​الأجور​، هذه النسب إن دلّت على شيء فهي تدل على ارتفاع نسبة التهرب الضريبي في لبنان. فإذاً ورقة الحكومة الاصلاحية لا تهدد فقط 26 ألف عائلة، إنما تهدد إيردات الخزينة أيضاً".

يختم غبريل حديثه بالقول: "لقد تراجع حجم الودائع في القطاع المصرفي بنحو 25 مليار دولار في الفترة الممتدة من أيلول 2019 حتى نيسان 2020، وكذلك بالنسبة للتسليفات المصرفية بنحو 6 مليارات دولار في الأشهر الأربع الأولى من الـ 2020، كل هذه الأرقام تدل على انخفاض حجم القطاع بسبب الضغوطات الموجودة اليوم، وإذا استمرت الحكومة بتطبيق مشروعها "الإصلاحي"، فالقطاع متّجه حتماً إلى الخراب. نحن نعول اليوم على بعض الأصوات العاقلة التي تخرج من ​مجلس النواب​ وتعترض على مضمون الشق المصرفي والمالي في مشروع الحكومة، وأكرر بأن جمعية المصارف لا تريد المواجهة مع "كارتال" المستشارين في الحكومة الذين وضعوا هذه الورقة، كل ما تريده هو الاتفاق على رؤية موحدة بأولويات واضحة للنهوض بالاقتصاد اللبناني، والحفاظ على رأس مال المصارف، وحماية المودعين، لذلك على السلطة التنفيذية أن تأخذ بعين الإعتبار مساهمة القطاع المصرفي بخطة الحكومة، وأن تستمع إلى رأي لجنة تقصي الحقائق التي ترأسها النائب إبراهيم كنعان، وأن تقوم بتطبيق المعايير الدولية لاحتساب الخسائر".