لا احد يجادل بعد اليوم حول الحاجة ل​صندوق النقد الدولي​ وملياراته من اجل انقاذ لبنان من الانهيار المالي التام ، ومن اجل اعطاء فسحة من الوقت لانطلاق خطة الانقاذ الاقتصادي والمالي وظهور نتائجها.

النقاش في قبول او عدم قبول اللجوء الى صندوق النقد لم يعد ترفا ، فالصندوق صار ممرا اجباريا للانقاذ ، وبغض النظر عن الشروط التي سيفرضها على لبنان ، وعن قدرة البلد على احتمالها ، وبغض النظر عن المبررات السياسية التي قد يتذرع بها البعض ، فان الاستعانة بالمؤسسات الدولية ، بات قدرا لا فرار منه ، ليس بسبب الحاجة الى التمويل ، وهذا مؤكد ، بل وايضا لان اللبنانيين بحاجة الى حكم محايد يدير خلافاتهم في الشق الاقتصادي والمالي، ويحدد سبل الخروج من المأزق.

في السياسة والامن ، لطالما لجأ لبنان الى الخارج لادارة ازماته ، وكان اتفاق الطائف الاشهر في هذا المجال ، وقد ارسى الوصاية السورية على البلد 15 سنة ، ومع خروج سوريا من لبنان ، تفجرت الخلافات ، وعندما استشهد الرئيس رفيق الحريري ، لجأ لبنان مرة اخرى الى الخارج عبر ​المحكمة الدولية​ لتطبيق العدالة ، ولما تفجرت الاوضاع اكثر ، ذهبنا الى الدوحة واتفاقها الشهير لادارة الوضع اللبناني ... والامثلة كثيرة .

اليوم فان المأساة اللبنانية مستمرة ، ومع ان ​الحروب​ هي اسوأ ما يمكن ان يصيب بلدا ما ، فان الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي أسوأ بكثير لانه سيولد نزاعات مدمرة تبدأ من داخل الاسرة الواحدة و​البيت​ الواحد ، الى تفتيت الفئات الاجتماعية ، والتقاتل فيما بينها ، وتصل الى هدم ​البنيان​ فوق رؤوس الجميع .

من متابعة وقائع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يتبين ان لبنان سيخسر المعركة سلفا ، لان الوفد اللبناني مؤلف من اطراف متعددة ، تتحكم بها ولاءاتها السياسية ، وتعبر عن وجهات نظر اقتصادية متباينة ان لم نقل متناقضة .

ظاهريا الوفد مكون من فريقين : الحكومة و​مصرف لبنان​ ، وسرعان ما ظهرت معالم الضعف من خلال الانقسام بين هذين المكونين ، فقدم كل منهما رقما مقدرا لخسائر الدولة ، وكان الفارق بين الرقمين مئة الف مليار ليرة ، كما يقول رئيس لجنة المال النيابية ​ابراهيم كنعان​ ، والذي وصف هذا الانقسام والارقام المتباينة والخيارات المختلفة بالانتحار. وقد جرى تشكيل لجنة فرعية برئاسته لتوحيد الارقام ولردم الهوة بين الارقام والخيارات.

عدا عن الخلاف بين الرقمين ، فان مصرف لبنان الذي يقر بوجود عجز كبير في موازنته يعتبر المليارات الناقصة خسائر مؤجلة ، في حين ان وزارة المال تعتبرها خسائر فعلية ينبغي البحث عن طريقة توزيعها على كل الاطراف ، وتميل من خلال مقترحات خطة الحكومة للانقاذ الاقتصادي ، الى تحميل ​المصارف​ الجزء الاكبر منها من خلال شطب الدين، وتحميل المودعين الكبار ما تبقى ، من خلال الهيركات المباشر او المقنع.

والى جانب هذه المفاوضات اطلقت جميعة المصارف خطتها للانقاذ وتدور كل فلسفتها على خيار الخصخصة لاصول وممتلكات الدولة ، مؤسسات ومرافق عامة واراض ...الخ ، سواء عبر الخصخصة الكاملة او خصخصة ادارتها فقط.

لا نناقش هنا الخيار الامثل ، فهذا ليس مجال بحث هذه المقالة ، ولكن في كل الاحوال ، ثمة خسائر سيتكبدها لبنان ، وينبغي في نهاية المطاف اتخاذ القرار بكيفية توزيعها . ولكن من يقرر؟

في الاصل تم اللجوء الى صندوق الدولي لانه يمتلك ما يفتقده لبنان اي السيولة ، وفي المقابل لدينا موجودات يمكن ان تغطي النقص ، لذا فان لبنان غير مفلس ، وهذا ما يؤكده الجميع ، من حاكم البنك المركزي الى ​جمعية المصارف​ الى وزارة المال والحكومة ،وكل الطبقة السياسية والاحزاب ، وعلى الرغم من ذلك يتعاطى لبنان مع الصندوق على انه دولة مفلسة ، وهذه هي نفطة الضعف التي ستقتلنا .

من البديهي القول ان توحيد الارقام والاتفاق بين الحكومة ومصرف لبنان وجمعية المصارف كان يفترض ان يتم قبل بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي. كما ان الاصلاحات الموعودة والتي من شأنها ان تعزز مالية الدولة ، كان يفترض أن تبدأ منذ فترة ، كي لا تكون ورقة ضاغطة بيد الصندوق يفرضها بنصائحه او باملاءاته وشروطه .

ولكن القيمين على الشأن السياسي والمالي يقاربون الموضوع كل من زاويته ، ويستخدمون المفاوضات مع صندوق النقد ، لتسجيل النقاط على بعضهم البعض ، ظنا منهم انهم سيربحون تعاطف المفاوضين الدوليين ، وانحيازا الى جانبهم . والاخطر من ذلك ان عمليات تسريب بعض وقائع التفاوض للاعلام ، تعزز من مناخ اللاثقة القائم بين الاطراف المعنية ، وتصيب اللبنانيين بمزيد من الاحباط ، ويكرس نقزة صندوق النقد من الجانب اللبناني.

ازاء صراع الخيارات والأرقام ، من المؤكد ان صندوق النقد عندما يتخذ قراره فانه لن يحدد فقط الخيار الامثل للمساعدة المالية التي سيقدمها للبنان ، بل سيجد نفسه مضطرا لقيام بمهمة تحكيم سياسي بين المتنازعين ، فيوحد الارقام الخاصة بالمالية العامة في لبنان ، ويحدد حجم الخسائر ، ومن المسؤول عنها ، ليس من باب التشفي ، بل لتحديد مصدر الخلل تمهيدا لمعالجته . واخيرا يضع مقترحات الحلول وشروط تطبيقها .

هذه المهمة ليست من اختصاص صندوق النقد الدولي ، وهو لا يريدها ، ولكنه قد يضطر للاضطلاع بها مرغما ، لان السلطات اللبنانية العامة لم تقم بها ، عندما نقلت انقساماتها السياسية الى الحيز الاقتصادي والمالي ، بحيث انها ستحتاج الى حاكم مستقل وحيادي ياتي من الخارج للفصل بين المتنازعين ، واتخاذ القرار بدلا منهم.