في مهّب رياح الافلاس الذي تعصف في لبنان ، خلصت خطة الانقاذ الاقتصادية التي قدمتها الحكومة الى عدة قرارات هي مشاريع انقاذ موجعة للبعض ومقبولة للبعض الآخر ، بغض النظر عن الملاحظات المتنوعة التي رافقت الكشف عنها.

ويبدو ان حصة الأسد في بنودها هي من نصيب ​القطاع المصرفي​ الذي سارع الى الرفض ، متسلحا بالمراجع القضائية .

بالتأكيد أن "التعثر "الاختياري" للدولة أدى إلى اهتزاز القطاع المصرفي برمّته لأنه يحمل 13 مليار دولار سندات "يوروبوند" ونحو 15 مليار دولار سندات بالليرة، من هنا سيذهب رأسمال ​المصارف​ لشطب دين الدولة بدل أن يذهب إلى المودِعين. وهذا التعثر الانتقائي هو الذي هدّد ودائع الناس بشكل مباشر. وان توّزعت المسؤولية بين عدة اطراف كانت السبب بجعل الودائع في خطر حقيقي، فمن المؤكد ان الدولة هي المذنب ، كونها شريكا اساسيا في اي هندسات مالية ونقدية ،وذلك لعدم إدراكها دقة الوضع.

وفي مواكبة لرحلة التوّسع التي قامت بها المصارف لتأمين التمويل للدولة جذبت أصحاب الودائع المقوّمة بالدولار في لبنان وخارجه ، من خلال تقديم أسعار فائدة مرتفعة جداً ، وإيداع تلك الأموال لدى ​مصرف لبنان​، بدون ​اعلام​ العملاء عن المخاطر المحتملة. وفي الوقت نفسه، حقّقت المصارف أرباحاً طائلة .

الا ان سكوت القطاع عن الاوضاع الحقيقية امام المودعين لم يصب ابدا لصالحه ، خصوصا بعد انفجار ازمة الدولار في البلاد ، حتى ان بعض الخبراء وصف المشهد الحالي بين المصارف والمودعين الذين لا يجدون اموالهم بمشهد تداعيات خطة "بونزي ". وهي تحمل اسم تشارلز بونزي الشخص الذي لجأ الى الاحتيال على الأفراد بإقناعهم بوضع أموالهم في ​استثمارات​ وهمية مقابل عوائد مرتفعة ، أعلى من المعدل العام لها ، عام 1920 في الولايات المتحدة الأمريكية . وبدأت تطلق هذه التسمية على أي عملية احتيال من هذا النوع بعد ذلك .

وتكررت مثل هذه الحالات في اكثر من بلد ؛ ففي ​بريطانيا​ وما عرف بشركة "بينوك التمويلية" في بدايات ستينيات القرن الماضي ، وفي الأردن في ما عرف بالبورصات الوهمية في الأعوام 2008 و 2009.

لاشك ان نجاح خطط شبيهة بخطة " بونزي" مرتبط بوجود ثغرات رقابية في الأنظمة والقوانين المالية . واذا كان هناك من خطة في لبنان ، وهذا الاحتمال غير مؤكد ، لأن الوضع مختلف ​فاين​ السلطة المالية ؟ ولماذا غضّت النظر ؟

لماذا يلقى اللوم على القطاع المصرفي فقط الذي بالغ في تمويل الدولة ؟

بطبيعة الحال، اي خطة اقتصادية اصلاحية لايمكن السير بها اذا لم يكن القطاع المصرفي بخير .

يحتاج القطاع الى إعادة ​رسملة​ بحوالى 25 مليار دولار شرط أن يترافق ذلك مع تخفيض قيمة الدين. كما أن إعادة الرسملة كافية شرط أن تقترن بخطة إصلاحيّة شاملة للاقتصاد، وهذا ما سيتطلّب برنامجاً من ​صندوق النقد الدولي​ بالاضافة إلى مساعدات خارجية بقيمة لا تقلّ عن 25 مليار دولار أخرى. 50 مليار دولار او 85 مليار دولار ارقام تقدر حلجة لبنان لتخطي الازمة .

وبغضّ النظر عن النهج المتّبع في إعادة رسملة المصارف، يحتاج الاقتصاد اللبنانيّ بشكل عاجل إلى سيولة من الخارج بالدولار وإلا فسيشهد انكماشاً أكثر حدّة بعد. فلبنان بلد صغير ومفتوح يعتمد اقتصاده على الاستيراد. وبالتالي، سيؤدي النقص في الدولار إلى تقلص ​النشاط الاقتصادي​ وتراجع ​الواردات​ ، حتى الواردات "الإنتاجية"، كالاستثمارات الرأسمالية، الضرورية للنموّ الاقتصاديّ في المستقبل.

تبدأ الحلول مع إعادة رسملة القطاع المصرفي بالاتفاق مع المصارف، ما سيتطلّب تقديمات نقديّة، بالاضافة الى رسملة الاحتياطات التي اندثرت.

ماذا انجز من عملية الرسملة في المصارف التي طالب بها مصرف لبنان تحقيقها على مرحلتين ؛ اولى نهاية 2019 ، و ثانية نهاية 2020 حزيران ؟

غبريل

رئيس قسم الأبحاث والدراسات الاقتصادية والمالية في "​بنك بيبلوس​ " ​الخبير الاقتصادي​ ​نسيب غبريل​ لفت الى ان اتخاذ قرار زيادة الرسملة في القطاع المصرفي أتخذ قبل تعثّر الدولة بشطب دينها له المستحق عن سندات اليوروبوندز .

وبالنسبة لزيادة رأس المال ، فقد طلب حاكم مصرف لبنان من المصارف زيادة رأس مالها بنسبة 20% ، وعلى دفعتين الاولى بنسبة 10% قبل آخر عام 2019 والثانية بنسبة 10% قبل آخر حزيران.

الآ ان الأمر اختلف اليوم ، وفي آخر لقاء مع المصارف ابدى حاكم المركزي ​رياض سلامة​ تفهمّه لصعوبة تنفيذ هذا الاجراء في ظل هذه الاوضاع والتطورات ، خصوصا ان الدولة اعلنت عن تعّثرها في دفع استحقاقات اليوروبوندز الذي يطال ​المصارف التجارية​ .

وقد مدد المهلة الى تاريخ غير محدّد ومقبول .

الا انه في غضون ذلك قام عدد من المصارف برفع رأسماله بنسبة 10% عن المرحلة الاولى . والبعض الآخر، اعلن عن انعقاد جمعيات عمومية للاعلان عن زيا دة رأسمال ثم عاد وارجأ بعد تعثّر الدولة عن دفع مستحقات السندات .

ويقول للاقتصاد : هناك 22 مصرفا اعلن خلال الجمعية العمومية عن نيته في رفع نسبة الرسملة للمرحلة الاولى . وبالتأكيد بعد شطب الدولة لاستحقاقات اليوروبوند اصبح متعذّرا تنفيذ ​المرحلة الثانية​ في حزيران .

وتخوّف الدكتور غبريل ان تمتنع الدولة عن تسديد مستحقات السندات بالليرة . كما ان ثمة اتجاها لرفع المؤونات من 2% الى 45% على محفظة اليوروبوندز ضمن الخسائر الائتمانية المتوقعة Expected Credit Loss.

وفقاً للمعيار الدولي المذكور، فانه سيفرض إعادة تقييم ​السندات السيادية​ التي تحملها المصارف واحتساب مؤونات لمواجهة هذه المخاطر الائتمانية.

اذا هناك اعباء جديدة على القطاع المصرفي أثرت على امكانية رفع رأسماله .

ويشير غبريل الى انه في مشروع الاصلاح المالي الذي قد مته الدولة تريد شطب رأسمال المصارف. وهذا معناه ان المصارف ان تحديد الخسائر رهن المفاوضات مع الدولة .

وتعثّر الدولة اختياري.

وعن الهدف الرئيسي من الخطة الاقتصادية التي اعلنت جمعية المصارف عن تقديمها كبديل عن خطة الحكومة المرفوضة من قبلها اكد ان الاولولية هي المحافظة على اموال المودعين على مختلف المستويات بغض النظر عن حجم الايداع .

وتسأل غبريل لماذا نريد معاقبة كبار الشركات و​المستثمر​ين في لبنان الذين يشكلون نسبة كبيرة عن طريق ال "هير كات "؟

في المبدأ الفكرة غير قانونية وغير دستورية ، وبالتالي ، غير قابلة للتطبيق .

اصول المصارف ضعيفة

في ظل هذا النفق المظلم الذ ي دخل فيه القطاع المصرفي وقبله المودعون الذين يعتاشون من مدخراتهم ، ثمة حقيقة لا مفر منها ، وهي ان أصول ​المصارف اللبنانية​ ضعيفة الآن، ما يحول دون وفاء المصارف بالتزاماتها. كيف يمكن إذاً معالجة هذه الأزمة المصرفية لكي يتمكن المودعون من سحب أموالهم مجدداً؟

الدولة تعاقب المصارف وهي بدورها تشد الخناق على المودعين .

استناداً إلى حجم الخسائر الحالية وارتفاع احتمال حصول ​إنقاذ​ داخلي (bail-in) للمصارف من أموال المودعين يتردد أصحاب الأسهم المصرفية في زيادة رأس المال في الوقت الحالي لأنّهم بذلك سيودعون أموالاً جديدة في مصارف على شفير الإفلاس، ما يعني أنّ ​رؤوس الأموال​ الجديدة ستختفي بالكامل.

ولا ننسى ان معظم الأصول المصرفية هي في الواقع ​قروض​ مقدّمة إلى الحكومة ومصرف لبنان.

الانكشاف على ​القطاع العام​، الذي تمّ من أموال المودعين الخاصة، أدّى إلى أن تُصبح مؤونة المصارف أقلّ من رساميلها المُقدّرة بـ23 مليار دولار. وبالتالي ، لم تعد المصارف تلتزم بالمعيار المحاسبي الدولي "IFRS9"، الذي يفرض تأمين حدّ أدنى من المؤونات تجاه توظيفاتها المُعرّضة للمخاطر.

ويبقى السؤال القطاع المصرفي عرف سرّ الدولة المفلسة ، اي سرّ البير وغطاه فلماذا لم يتحرّك قبل اليوم ؟ ما الذي كان يطمئنه ؟ او ما هي الضمانات التي فلتت من حوزته ؟