تفتقت عبقرية الطبقة السياسية – المالية الحاكمة عن حل جاهز وسريع للازمة المالية في لبنان ، والتي كشفت عنها تقارير الحكومة اذ حددت للمرة الاولى خسائر الدولة المقدرة بـ 83 مليار دولار . هذا الحل هو بيع الاملاك العامة ، لتغطية هذه الخسائر .

هكذا بكل بساطة أعلن رئيس جميعة ​المصارف​ سليم صفير أن "الحل هو أن تبيع الدولة ممتلكاتها بأموال من الخارج وليس بأموال من داخل ​لبنان​، لأننا إن بعنا تلك الممتلكات بالأموال من الداخل فلا نكون قد فعلنا شيئاً على الإطلاق".

وكان رئيس تيار المردة سليمان فرنجية قد اقترح قبيل ثورة 17 تشرين بيع الاراضي التي تملكها الدولة ومنها الارض المتواجد عليها ​مرفأ بيروت​ والتي يمكن جعلها ​منطقة حرة​ اقتصادية اذا أبعدنا المرفأ بضعة أمتار، مؤكدا “أن هذا الاقتراح يمكن ان يدخل 50 او 60 مليار دولار الى خزينة الدولة، وهو خطوة أولى ويخلق صدمة ايجابية في ​الاقتصاد اللبناني​ ويمكن الدولة من التخلص من الدين والعجز، ويجعل لبنان ساحة للاستثمار العالمي يتم عبرها ادخال مليارات الدولارات التي من شأنها اعادة النمو الى الاقتصاد اللبناني".

بالمنطق الاقتصادي السليم يمكن البحث عن حلول مماثلة لازمة مالية مستفحلة ، فالاراضي مثلا هي ثروة مجمدة ويمكن استثمارها وجني الفوائد منها ، بدلا من بقائها كما هي ، اي دون جدوى، اقتصادية ، أما المرافق العامة فينبغي البحث في جدوى بقائها بيد الدولة او خصخصتها ، ، ولكن المشكلة في لبنان ليست في الحسابات او في الجدوى الاقتصادية او في منافع الاستثمار ، وانما هي مشكلة نظام ، تديره طبقة مختلطة من رجال السياسة والمال ، وتذهب بالدولة باتجاه تعميق الازمة بدلا من حلها . وليس أدل على هذا سوى اتفاق المصرفي والسياسي على حل ، يعرف الجميع انه موقت ، يعالج نتائج الازمة وليس اسبابها.

ومن المسلم به ان حصول الدولة اي مبالغ من بيع املاك الدولة ، مهما كبر حجمها ، من دون ​اصلاح​ المالية العامة ، وسد مزاريب الهدر والسرقة و​الفساد​ ، لا يحل المشكلة المالية. اذ يمكن ملء خزان مثقوب .

ما الذي يمكن بيعه ؟

احتياطي الذهب​ المقدرة قيمته بـ16 مليار دولار ، مستبعد بيعه تماما ، لان ذلك يكشف الليرة اللبنانية من تغطيتها ، وهذا امر مسلم به .

اما المصالح التي يحكي عنها فابرزها : ​كهرباء لبنان​ ، وهي مؤسسة مفلسة وخاسرة وبيعها لن يقدم شيئا بوضعها الراهن ، اما اذا تقرر اصلاحها وجعلها شركة رابحة ، من خلال اشراك ​القطاع الخاص​ فيها ، مع بقاء سيطرة الدولة ، فمن الاجدى عندئذ عدم بيعها . اما شركة طيران الشرق الاوسط وقطاع الهاتف الخليوي فهما رابحان ويؤمنان للدولة مداخيل ثابتة ، ومن غير المنطقي بيعهما. ولكن المطلوب ادخال الكثير من الاصلاحات عليهما لتحقيق المزيد من الارباح . وما يجدر الاشارة اليه ، ان قطاع الخليوي تحديدا يمكن ان يضاعف مداخيله اذا كف ​السياسيون​ يدهم عنه بوقف ​التوظيف​ الانتخابي فيه ، كما حصل قبل الانتخابات الاخيرة ، حيث تم حشر الاف الموظفين هناك ، لا عمل لهم .

المرافق العامة لا يمكن بيعها لسببين ، فهي اما مفلسة وخاسرة ، ولن يشتريها أحد بوضعها الراهن ، والمطلوب انعاشها ، واما هي مؤسسات رابحة ، ينبغي العمل لتطويرها .

الاملاك الاميرية

تبقى أملاك الدولة الأميرية والخاصة والعامة والمشاعات التي تشكل نسبة عالية من مساحة لبنان "10452" كلم مربع ويقدرها الخبراء بحدود 60 بالمئة من المساحة الكلية لدولة لبنان الكبير.

المشكلة بداية ان الدولة لا تعرف ما تملك ، وقد كلف ​مجلس الوزراء​ وزارة المال بتاريخ 21/10/2019 إجراء جردة بكافة ​العقارات​ التي تملكها الدولة وتقييمها وتقديم اقتراحات للاستفادة منها، وقد شرعت الوزارة بهذا الامر .

المشكلة الثانية هي ما تعرضت له هذه الاملاك من اعتداءات على الشواطئ والأملاك البحرية واستغلال كامل لمناطق ومشاعات تحت سلطة البلديات وبطرق غير قانونية.

هذه الاستباحة تتطلب من الدولة القيام بمسح كامل للأراضي اللبنانية تمهيداً لاتخاذ قرارات لمعالجة هذا الواقع المتفاقم. وفي ظل شح المعلومات الدقيقة والموثقة علميا ، ثمة خبراء يقولون ان 50 بالمئة من الأراضي اللبنانية قد جرى مسحها وتسجيلها قانونياً بينما هناك 30 بالمئة من الأراضي اللبنانية تم مسحها ولكن لم يتحقق ضمها قانونياً إلى القسم الممسوح سابقاً. ويبقى 20 بالمئة من الأراضي اللبنانية تحتاج إلى المسح ومعظمها في المناطق النائية.

ملف الاملاك البحرية والنهرية والاعتداءات الواقعة عليها ، معروف للجميع ، ولا مبرر للحكومة للتقاعس في معالجته بحيث تتم ازالة التعديات كافة ، وفرض الرسوم المناسبة على شاغلي بعض هذه الاملاك ، بعيدا عن المحسوبية و​المحاصصة​ والزبائنية .

وكذلك الامر في المشاعات المهيمن عليها من قبل قوى الامر الواقع ، لا مبرر للدولة ان لا تضرب بيد من حديد لاستعادتها .

اما بالنسبة للاراضي التابعة لمصلحة سكك ​الحديد​ ، فهناك تعديات عليها يجب ازالتها ، والحرص على عدم بيع هذه الاراضي ، بل بالعكس استغلالها لتفعيل هذه المصلحة ، واعادة اطلاق حركة القطارات من خلال ​مشروع جديد​ يشمل كل المناطق اللبنانية.

وزير البيئة الاسبق ​محمد المشنوق​ اقترح مشروعا لاستثمار بعض املاك الدولة العقارية، فقدم مشروعا يقي بفرز حوالي 10 بالمئة من هذه الأملاك إلى مساحات صغيرة "500/750/1000/2000 متر مربع". وفق تخطيط مدني نموذجي واختيار المواقع التي يمكن العيش فيها أي بارتفاعات لا تزيد عن 2400 متر مع الحرص دائماً على تفادي المحميات والمناطق الأثرية والغابات والموارد المائية والأنهار.

المساحات المعروضة سيكون عددها مليون قطعة تقريباً في 1000 كلم مربع بمقياس "500/750/1000/2000 متر مربع" موزعة على كل الاقضية بعد حسم المساحات المقتطعة للطرقات والحدائق والساحات العامة ومناطق الخدمات. ويقضي الحل أن تعرض الدولة على أصحاب الودائع المحتجزة حاليا في المصارف فرصة شراء قطعة أرض أو أكثر من المساحات المعروضة بما يمكن المواطن وعائلته أو شركاؤه من الشراء والاستثمار ضمن تسهيلات بالدفع ووفق شروط تحددها الدولة ونلتزم بتطبيقها تأميناً لإنعاش هذه المناطق وتأمين النهضة فيها من خلال مشاريع إنتاجية وفق تصنيف المناطق زراعية سكنياً، صناعياً، أو سياحياً.

يعتبر المشنوق إن أهم نقطة في هذا الحل أن الأموال التي ستدخل إلى الدولة لن تذهب كما العادة في بند خاص في وزارة المال بل ستذهب إلى صندوق سيادي بإدارة المجلس الوطني لإدارة أملاك الدولة وسوف تؤمن مليون قطعة أرض من الأحجام المختلفة دخلاً قد يتجاوز 50 مليار دولار "1000000 x 50 ألف $ = 50 مليار" في الصندوق السيادي. وبكل تحفظ وبسبب اختلاف المناطق والارتفاع والمساحات والتصنيف السكني والصناعي والزراعي والسياحي والاسعار التشجيعية فان الدخل للصندوق السيادي لن يقلّ عن 25 مليار دولار.

هذا المشروع جدير بالدرس والبحث الجدي ، كونه مثال على افكار خلاقة لاستثمار الاملاك السائبة وافادة المواطنين والخزينة على حد سواء منها .

ما بعد الثورة

أهم نتيجة قد تحققها ثورة 17 تشرين هي في فرض نمط تفكير جديد في معالجة الاوضاع الاقتصادية والمالية ، وعدم استسهال الوصفات الجاهزة ، مثل التنازل عن املاك الدولة ، سواء جاء الاقتراح من مصرفيين او سياسيين. فالثقة بالنظام السياسي – المالي باتت مفقودة عند المواطنين ، واي اقتراح لمشروع حل ، ينبغي ان يتمتع بشفافية كاملة ، بحيث يلمس الناس باليد ، ويرون بالعين المجردة ، الفوائد المرجوة منه.