قررت الحكومة تقديم ​مساعدة مالية​ عاجلة الى الاسر المحتاجة بقيمة 400 الف ليرة، وهي خطوية ايجابية ولكنها ناقصة لان احتياجات العائلات التي انقطعت سبل عيشها اكبر من ذلك بكثير، الا انها خطوة على الطريق الصحيح يجب ان تستكمل بشرط التنفيذ بطريقة ​علم​ية صحيحة .

سرعان ما ما طرحت مسالة شائكة تتعلق بمن يستحق هذه المساعدة، واذا سلمنا ان الغالبية الساحقة ل​لبنان​يين هم اليوم بحاجة للمساعدة، ولكن الاولوية لمن فقدوا مصدر رزقهم بسبب التعبئة العامة في مواجهة كورونا، كالمياومين وسائقي الاجرة وغيرهم، فان السؤال الاهم هو كيف نحصي هؤلاء.

تأكيدا لمقولة الوزير السابق الياس سابا بان الارقام في لبنان وجهة نظر، برز سريعا خلاف بين الوزارات المعنية حول الفئات التي يجب ان يشملها قرار الدعم ، فتحدثت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عن الاكثر فقرا، وهي التي تملك داتا خاصة بهم، وتناولت وزارة العمل العاطلين عن العمل، من دون ان يكون لها القدرة على تحديد رقم المياومين في لبنان، وتطرقت وزارة الصحة الى الفئة من اللبنانيين غير المضمونين والتي يستفيدون من التقديمات الصحية للوزارة بوصفهم من المحتاجين ودخلت الهيئة العليا للاغاثة على الخط بوصفها كانت معنية في السنوات الماضية عن تعويض المتضررين من كوارث طبيعية وغيرها... الخ وهكذا انخرطت الادارات الرسمية المفترض بها تنفيذ قرارات الحكومة في متاهة الارقام، ولن يشكل الحل الذي اعتمد، اي تكليف الجيش بمهمة توزيع ​المساعدات​، سوى مخرج ظرفي، فالجيش بدوره لا بد ان يستند الى داتا مثبتة وموثقة للعائلات في لبنان، ولمصادر دخلها، وبالتالي حاجتها للمساعدة. وهذا ليس من اختصاص المؤسسة العسكرية.

يُعدُّ علم الإحصاء (statistics) اليوم من أهم العلوم التي تتوقف عليها التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية... إلخ، وللإحصاء حصة أساسية من عمل الدول والمؤسسات والمنظمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عالميا ودوليا ومحليا، وكثيرا ما يرتهن مصير مشاريع أو قرارات كبرى بالنتائج التي يقدمها الإحصاء في مجال معين.

وبصورة عامة، فإن افتقاد الجهد الإحصائي في مجال من المجالات، يمنع من التأكد وتحصيل الضمان في استجابة أي مشروع للواقع، كما يحول دون تحديد مدى نجاحه أو إخفاقه، ويجعل في الإقدام عليه شيئا من المخاطرة، او يعرضه للخطأ.

كما يعد استخدام الأسلوب الإحصائي في أي دراسة الوسيلة المأمونة التي يمكن أن تضمن تحقيق الأهداف المرجوة من وراء تنفيذها، سواء كان الهدف المقصود من الدراسة التعرف على نواحٍ معينة لبعض الظواهر الاجتماعية أو الاقتصادية أو لدراسة مشكلة معينة قائمة أو متوقعة ووضع الحلول المناسبة لها.

ويمكن للمنشآت سواء التابع منها للقطاع العام أو الخاص القيام بالأعمال والمهام والواجبات المنوطة بها على الوجه المطلوب، إذا ما توافرت لها المعلومات والبيانات والمؤشرات الإحصائية وعلى درجة من الدقة والشمول. فعلى سبيل المثال، يمكن للقائمين على ​قطاع الخدمات​ الاجتماعية تلمس حاجات المجتمع من المؤسسات العاملة في هذا المجال، حكومية او غير حكومية، في ضوء توافر بيانات ومعلومات مفصلة ودقيقة عن السكان وتوزيعهم العمري والنوعي والمهني.

وهذا ما نحتاجه اليوم لتوزيع المساعدات، وسنحتاجه اكثر لاحقا لتقييم الاضرار الاقتصادية والمالية لازمة كورونا، اذا اردنا اعادة النهوض والبناء.

لبنان عدو الاحصاءات، ولطالما ابتعدنا عن هذا العلم لاسباب طائفية ومذهبية وسياسية ، وقد ظل البلد يعمل وفقا لاحصاء السكان منذ العام 1932 وحتى العام 2019، وقد كتب الكثير عن تجنب الطبقة السياسية لاجراء احصاء جديد خوفا من انكشاف الخلل التوازنات الديموغرافية الطائفية. وهذه الحجة مردودة لاصحابها، لان لوائح الشطب التي تنشر كل دورة انتخابية نيابية تكشف بدقة نسب التوزيع الطائفي للناخبين.

بالنسبة للاحصاء الذي اجرته الادارة المركزية للاحصاء في لبنان العام الماضي بتمويل من ​الاتحاد الأوروبي​ ومساعدة فنية من قبل ​منظمة العمل الدولية​،، فقد قدم معلومات مفيدة بعد عقود من الغياب، عن ​عدد السكان​ وتوزعهم المناطقي، ولكنه ظل قاصرا عن تحديد دقيق للواقع الاجتماعي والمهني والمالي للاسر، وهذا ما ينقص لتنفيذ القرار الاخير للحكومة.

ادارة الاحصاء المركزي​ كانت قد وعدت بإطلاق دراسة ميزانية إنفاق الأسر عام 2020 بعد أن تمكّنت من تأمين التمويل اللازم لهذه الغاية، لان الادارة تعمل منذ سنوات بالاعتماد على الهبات الدولية، وهذا يدلل على اهمال الحكومة لهذه الادارة الحيوية اذ لا تتجاوز ميزانتيها السنوية 4 ملايين دولار، ويعمل فيها 105 موظفين.

المهم ان هذه الدراسة لم تنجز، والاحصاء الاخير يجب ان يستكمل بهكذا دراسة واكثر، لان الاحصاء يحتاج دوما الى تحديث، وهذا لا يتم الا عبر ربط كل الوزارات بادارة الاحصاء المركزي، لتزويدها بالارقم المستجدة دوريا، سواء بالنسبة للعاطلينعن العمل ، او الاسر الفقيرة، او المحتاجين او ​كبار السن​ او المضمونين وغير الضمونين صحيا.. الخ.. وهذا ما لا يحصل في لبنان.

فكيف تنفذ قرارات الحكومة اذا؟

والسؤال الاهم هو على اي اساس تتخذ القرارات؟