في النقاش الدائر قبل وبعد قرار الحكومة بتعليق دفع سندات ​اليورو​بوند ، خرجت اصوات كثيرة تحذر من المساس بالاقتصاد الحر، وتتهم القيمين على الدولة بتغيير النموذج الاقتصادي اللبناني، ودفعه نحو تجارب التأميم ذات المنابع الفكرية الاشتراكية. وقد أيد المعترضون مواقفهم باستذكار نماذج فاشلة طبقتها بعض ​الدول العربية​ لما سمي يومها بالاشتراكية، وانتهت الى سقوط مدو لهذا النموذج الاقتصادي وللقائمين عليه سياسيا.

يحق للجميع مناقشة الخيارات الاقتصادية للبنان فنحن من حيث المبدأ في بلد ديمرقاطي ، ولكن قبل اطلاق المواقف العشوائية، وكيل الاتهامات اللاذعة ، ينبغي دائما الحرص على الحقائق، والابتعاد التام عن تسييس الخيارات، وفبركة ​الشائعات​، كي لا يصاب ​الاقتصاد اللبناني​ بويلات تضاف الى ويلاته المعروفة.

هل شكل قرار الجمهورية اللبنانية تعليق دفع السندات خطوة نحو الاشتراكية؟ هذا هو السؤال المركزي. وبالتأكيد فان الاجابة هي لا. ويعرف ذلك المنتقدون مروجو خرافة اسقاط النظام الاقتصادي الحر، ولكنهم يكذبون لغايات مالية في انفسهم، لاتقل قيمتها عن مئات مليارات الدولارات المنهوبة من المال العام او المتأتية عن اثراء غير مشروع، واستغلال وصرف نفوذ، وصفقات فاسدة، وتهرب ضريبي، وسائر موبقات الاداء السياسي اللبناني المعروف.

تجنب الافلاس

تعليق دفع بعض سندات ​الدين العام​ اتخذته الحكومة بحرص ​شديد​ لانها اكدت انه سيتم بالتفاوض مع الدائنين، من ضمن سياسة جديدة تقتضي اعادة هيكلة هذا الدين بعد ان بلغ اكثر 150 في المئة من حجم النتاج المحلي، وينبغي فرملته قبل ان نصل الى سيناريو ​اليونان​، اذ عندما وصت ديون هذا البلد الى 170 في المئة من حجم الناتج المحلي وقعت الكارثة وافلست الدولة. ولم تقم قائمتها الا بعد نيلها مساعدات اوروبية بالمليارات من اليورو.

هذه المساعدة لن تصل الى لبنان لاسباب عديدة سبق شرحها وتحليلها مئات المرات وصارت من المسلمات.

قبل لبنان ثمة 50 دولة في العالم سبق لها ان تخلفت عن سداد ديونها، ودخلت جميعها في برامج اصلاحية داخلية وطنية أو دولية، عبر ​صندوق النقد الدولي​ ومؤسسات عالمية أخرى. والقاسم المشترك بينها كلها انها كلها اقتصادات حرة، وهي لم تغير طبيعة نظامها، بل بالعكس تشددت في التمسك به.

في لبنان فان المطلوب هو تغيير جذري في ​السياسة النقدية​ وليس في طبيعة الاقتصاد الحر على الاطلاق.

هذه السياسة النقدية منذ العام 1992 اعتمدت بصورة رئيسية على جذب الودائع بالعملة الوطنية مقابل إعطائها فوائد مرتفعة كانت الأعلى في المنطقة، لمدة تجاوزت الأحد عشر عاماً، في ظل حكومات وعهود مختلفة، وبعد العام 2003 بدأت الفوائد تتراجع ولكنها حافظت على مستوى أعلى مما هو موجود عالميا، ويقدر الخبراء ان المعدل العام للفوائد في العالم هو 4%، ولكنها في لبنان تبقى اعلى بكثير.

هيكلة الدين

يجزم معظم ​الخبراء الاقتصاديين​ المستقلين، اي من خارج المنظومة المافياوية السياسية- المالية المتحكمة بالبلد منذ العام 1992، ان اكثر من 75 في المئة من ديننا العام اليوم متأت من الفوائد وتراكمها. وقد برز في هذا المجال اقتراح عرض على رئاسة الجمهورية ، مرفق بجدول حسابي دقيق، يفيد انه لو جرى احتساب الفوائد بمفعول رجعي للدائنين، ومعظمهم من اللبنانيين، على اساس فائدة 4%، وشطب الباقي، لتخلص لبنان من القسم الاكبر من دينه العام.

هذه العملية هي من ​صلب​ الاقتصاد الحر، وتمارسها ​المصارف​ والدول يوميا عبر العالم، مع المقترضين المتعثرين من افراد وشركات، ويقوم بها ​نادي باريس​ ايضا مع الدول، فتتم اعادة جدولة ​الديون​ وتخفيض الفوائد، وتقسيط دفعات التسديد.

ان تخفيض الفائدة هو اجراء اتخذته الحكومة وهو لا يتناقض مع طبيعة الاقتصاد الحر، فكل دول العالم تحدد ​اسعار الفائدة​ وفقا لحاجات اقتصاداتها.

كما ان الحديث عن اعادة هيكلة ​القطاع المصرفي​ لا يعني تأميمه، فالمصارف المتعثرة تدمج بمصارف أخرى، اذا امك، وفي حال تعذر ذلك يضع المصرف المركزي يده عليها وفقا لصلاحياته المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، وفي لبنان ثمة سوابق كان آخرها تصفية جمال ترست بنك في الاطار القانوني بسبب تعثره.

القطاعات الانتاجية

من ناحية ثانية، لطالما اشتكى الاقتصاديون في قطاعات الصناعة والزراعة و​المقاولات​ وغيرها ورفعوا الصوت مطالبين بضرورة إلغاء ​السياسة المالية​ القائمة على الربى، إلا أن رضى الطبقة السياسية، وغياب أي سياسة اقتصادية واضحة للدولة، تنعكس على سياسة نقدية متينة، وتحقيق الجهاز المصرفي عوائد مرتفعة، وثبات سعر الصرف، أدت كلها إلى تجاهل دور السياسة النقدية في انخفاض مستويات الاستثمار الخاص، وفي زيادة معدلات البطالة، وارتفاع العجز في ​الميزان التجاري​.

وها هي النتائج اليوم، فمضاعفات السياسة النقدية غير المشجعة على الاستثمار والإنتاج، واهمال الصناعة والزراعة، وتدني مستويات ​السياحة​ وإيراداتها، وانخفاض قيمة تحويلات اللبنانيين من الخارج، تضاف اليها ​الأزمة السورية​ وتأثيراتها في خفض الصادرات،واعباء النزوح لجهة زيادة الاستيراد بالعملات الصعبة، كل هذه العوامل وغيرها، أدت إلى زيادة العجز في الميزان التجاري والنمو السلبي للاقتصاد، وإغلاق مؤسسات، وارتفاع معدلات البطالة، إضافة إلى التجاذبات السياسية وسياسة المصرف المركزي في التدخل لضمان مستوى مستقر للعملة الوطنية مقابل الدولار أدت إلى إحراق وضياع قسم كبير من احتياطيه النقدي بالعملات الصعبة.

هذه العوامل أيضاً ساهمت في ضعف ثقة المودع، وأدّت إلى تحويل معظم الودائع المصرفية إلى الدولار على حساب الليرة، وهذا انعكس انخفاضاً في قدرة البنك المركزي على المواجهة وعلى التدخل، فأدى إلى وجود سعر غير رسمي للعملة في السوق الموازية، وضعف الاحتياطي من السلع الرئيسية، نتيجة ضعف القدرة على تمويل الاستيراد.

هذه هي بالضبط حقيقة الازمة النقدية والاقتصادية في البلاد، والتي فجرت الثورة الشعبية في 17 تشرين الأول.

تصويب الاقتصاد

تنصّ مقدّمة الدستور اللبناني، التي أضيفت بعد اتفاق الطائف في العام 1990، على أن النظام الاقتصادي في لبنان هو نظام حرّ، يكفل المبادرة الخاصّة والملكّية الخاصّة.

الانتقال الى الاقتصاد المنتج واحلاله بدل الاقتصاد الريعي لا يخالف الدستور، فليس المطلوب ما فعلته الدول الاشتراكية مثل انشاء الدولة للمصانع، او مصادرة الاراضي لاقامة المشاريع الزراعية الكبيرة، لتلبية حاجات البلد من ​مواد غذائية​ واساسية. وليس المطلوب بالتأكيد تاميم المؤسسات السياحية والترفيهية، والحكومة ليست في هذا الوارد.

ما قررته خطة ماكينزي لاقتصاد لبناني حر، هوأو الحفاظ على الملكية الخاصة، وثانيا تشجيع المبادرات الخاصة ودعمها من قبل الدولة، من خلال وضع خطط للنهوض بقطاعي الصناعة والزراعة، وتوفير الاستثمارات من السوق الداخلي والخارجي لها، وتأمين اسواق التصريف والتوزيع، بدءا من السوق اللبناني نفسه، من اجل تصحيح الخلل في الميزان التجاري، وقلبه الى فائض في مداخيل الصادرات على حساب نفقات الاستيراد.

ما ينبغي ان تفعله الحكومة هو وضع سياسية مالية جديدة تتلاءم مع خطة اقتصادية اشمل، فيقوم التوزان بين تطور القطاع المصرفي، وبين النمو الذي يجب ان يحققه الاقتصاد، بعد انهاض القطاعات الانتاجية.

وهذا من صلب الاقتصاد الحر، وتشهد بذلك تجارب دول العالم الحر، وابرزها ​الصين​، فهي الدولة التي لا تزال تحتفظ بنظام سياسي شيوعي، ولكنها تحظى باحد اقوى الاقتصادات الحرة في العالم.