ليس مفاجئا أن تتناول وسائل الإعلام والمحللون الاقتصاديون والخبراء ​مافيا​ ال​دواء​ في لبنان ، وتشرح اساليبها في جني الارباح الطائلة من احتكار ال​استيراد​ والتوزيع ، وتفضح دورها في تعطيل صناعة الدواء في لبنان . فهذه المافيا مثل شقيقاتها في قطاعات ​الكهرباء​ و​النفط​ و​مواد البناء​ والصحة والاستشفاء .. الخ ، تمتلك من النفوذ ما يمكنها من الاستمرار بعملها التخريبي للبلد في ظل غياب الدولة كليا .

الدولة غائبة باعتراف رئيس الحكومة ​حسان دياب​ ، ومافيا الدواء هي من ابرز المستفيدين ، وهي عبارة عن منظومة سياسية مالية قضائية .. واعلامية متكاملة (بحسب وصف وزير الصناعة عماد حب الله )، تهيمن على القطاع ، وتحقق الارباح الطائلة . واذا كان تحقيق الربح في اي عمل تجاري او صناعي او خدماتي امر مشروع وقانوني تماما ، الا ان ما يجري هنا مختلف ، لان هذه المافيا تعطل بسبب سياسة الدولة قطاعا حيويا يحتاجه لبنان بشدة وهو قطاع صناعة ​الادوية​.

تبلغ قيمة الفاتورة الدوائية نحو مليار وتسعمائة مليون دولار ( 1.9 مليار دولار ) سنوياً، وتبلغ نسبة حصّة الدواء المنتج محلّياً سبعة بالمئة ( 7% ) فقط من حصّة السوق الدوائي المستهلك في لبنان. وهذا العجز الهائل في الميزان ​التجار​ي في قطاع الدواء ، بالاضافة الى سائر ​القطاعات الانتاجية​ ، هو المسؤول عن ازمة فقدان ​الدولار​ من السوق اللبناني . ففي السابق كان هذا العجز يغطى بشكل او بآخر في ظل دورة اقتصادية ناشطة ، واستطاعة القطاع ال​مصر​في التعايش مع الطلب الدائم والكثيف على الدولار . أما اليوم فان ازمة الدولار تهدد المواطن في صحته وحياته لان كل عمليات استيراد الدواء تتم ب​العملات​ الاجنبية ، واذا كان ​مصرف لبنان​ يؤمن حتى الآن ​الاعتمادات​ المطلوبة بنسبة 85 في المئة ، فان السؤال الملح هو الى متى سيستطيع ذلك ؟ علما ان دعم المركزي لا يغطي المسلتزمات الطبية .

الإقتصاد الريعي

هنا "يكتشف" المسؤولون مصطلح الاقتصاد الريعي ، ويطبلون ويهللون لخيار الاقتصاد المنتج ، اي القائم على الصناعة والزراعة بالدرجة الاولى . فالسياسة الاقتصادية القائمة في لبنان ، وبذريعة واهية هي "الاقتصاد الحر " ، اعطت دائما الاولوية لطبقة التجار والمستوردين واهملت القطاعات الانتاجية . ولو سلمنا جدلا ان هذا من مظاهر "الاقتصاد الحر " ، فكيف نفسر الاحتكارات الممنوحة لبضعة اشخاص لاستيراد الدواء ، وهل هذه حرية ؟ أليس هذا تقييدا للتجارة والمنافسة ؟

في كل دول العالم تقريبا الاقتصاد حر، ولكنه يخضع لضوابط وطنية تجعل الدولة توازن بين حرية الاستيراد وضرورة حماية الصناعة الوطنية ، كما تراعي وتدعم الدول المتحضرة كل قطاعاتها الانتاجية ، فتلجأ ​الصين​ مثلا الى تخفيض سعر عملتها من أجل تشجيع التصدير ،وهذا يعني تدفق الدولارات اليها ، وترد عليها ​الولايات المتحدة​ باجراءات جمركية حادة لحماية الصناعة الاميركية ولاسترداد ما أمكن من دولارات ، وفي ​اوروبا​ لا يختلف الامر كثيرا . اليست هذه اقتصادات ليبرالية حرة ؟

في لبنان الامر معاكس : تفعل الدولة كل شيء لاستنزاف العملات الصعبة من الخزينة ، وبدلا من تشجيع الصناعة والتصدير تبيح التجارة والاستيراد .

لبنان مؤهل

ينتج لبنان ​الأدوية​ والأمصال والحقن والمستحضرات الطبية، عبر شركات ومصانع ومختبرات لبنانية، أبرزها شركة ألغوريتم للأدوية، مختبرات ألفا، شركة بنتا، شركة شفا، شلهوب فارماسوتيكالس، أروان للصِناعات الدوائية، مفيكو، مختبرات مدي فار، شركة فارما، شركة فارمادكس، شركة الأمصال اللبنانية، فارمالاين، شركة صناعة الأدوية للشرق الاوسط.

تتبع هذه الجهات الطبية أعلى معايير الجودة المعتمدة عالمياً، وهي قادرة على منافسة عدد كبير من المنتجات المستوردة داخل السوق اللبنانية وفي ​الأسواق العالمية​. وتحظى تلك الجهات بإهتمام مراكز الأبحاث الطبية والجامعات في عدد من دول العالم.

فلماذا تغطي هذه الصناعات 7 في المئة فقط من سوق الدواء ؟ ولماذا تستنزف الادوية المستوردة من دول مثل ​الاردن​ ومصر و​الهند​ ، وحدها ، 500 مليون ودولار سنويا ، وهي دول ليست متقدمة علميا وتقنيا وبشريا على لبنان ؟

قد نفهم ان نستورد ادوية معينة مصنعة في ​سويسرا​ و​المانيا​ و​اميركا​ و​بريطانيا​ ، لاننا غير قادرين على تصنيعها ، او ان تصنيعها محليا قد يكلفنا اكثر من شرائها ، ولكن لا نفهم التقاعس في تصنيع مئات الادوية "السهلة " ، مثلما تفعل ​تركيا​ وسوريا على سبيل المثال .

تاريخ ونجاحات

صناعة الدواء في لبنان ليست جديدة وقد كانت السبعينات من القرن الماضي ، متقدمة على محيطها حيث كان هناك 16 مصنعًا تنتج أنواعًا مختلفة من الأدوية تعطي حصة كبيرة لسوق الاستهلاك المحلي وتصدر الى الأسواق المجاورة. وكان هذا القطاع يعد الأهم في منطقة الشرق الأوسط، لكن غالبية هذه المصانع أقفلت أثناء الحرب الأهلية، وبعد انتهائها أعاد بعضهم فتح أبوابها. واليوم يبلغ عدد مصانع الأدوية في لبنان أحد عشر مصنعًا تواصل جهودها لرفع مستوى الصناعة ، وصارت قادرة على تصنيع أكثر من 650 نوع دواء لمعالجة أمراض أساسية مزمنة ومستعصية ذات جودة أكيدة وبأسعار مناسبة، إضافة الى تأمين أكثر من 1800 فرصة عمل للاختصاصيين من صيادلة وأطباء ومهندسين وكيميائيين وتقنيين وعمال، وإبقاء هذه ​الثروات​ البشرية في الوطن، وكذلك الى استقطاب أكثر من 15 مختبرًا من أهم المختبرات العالمية الأوروبية والأميركية واليابانية للتصنيع محليًا بإجازة Under license ونقل التكنولوجيا خاصتها الى لبنان.

ومن الامثلة على نجاحات قطاع صناعة الدواء ، ان شركة بنتا للصناعات الدوائية، استضافت العام الماضي وفداً من رئاسة جامعة تينيسي الأميركية، بهدف تعزيز الجهود البحثية الرامية إلى تطوير علاجات الأمراض المزمنة والمستعصية والعلاجات البيولوجية، وإلى توثيق التعاون الصناعي القائم حالياً بين الطرفين، ودور بنتا في تصنيع أدوية في ​الولايات المتحدة الأميركية​ بتكليف من جامعة تينيسي، للسوق الأميركية والعالمية.

استيراد الدواء

وفقا لجمعية مستوردي الأدوية ، فان شركة "مرساكو" هي أكبر شركة لاستيراد الدواء في لبنان، وتملك ما يقارب العشرين في المئة من حصة السوق، فيما تملك شركتان أخريان عشرين في المئة، وتتوزع نسبة الستين في المئة الباقية، على الشركات الأخرى.

ويبلغ عدد شركات الأدوية المسجلة لدى وزارة الصحة مئة شركة، بينها أربعون شركة فاعلة في السوق مسجلة لدى جمعية مستوردي الأدوية، تضاف إليها عشرون شركة فاعلة أخرى لكنها غير مسجلة في الجمعية. أما الأربعون الباقية فهي إما متوقفة عن العمل أو تبيع بكميات ضئيلة. كما يوجد عدد محدود من الشركات غير المستوردة، وإنما تملك أذونات توزيع داخل الأراضي اللبنانية.

ويصل عدد الأدوية المسجلة لدى وزارة الصحة إلى ثلاثة آلاف وثلاثمئة صنف دواء، ستون في المئة منها أصلية، والأربعون في المئة الباقية "جنريك".

في الواقع فان 6 شركات فقط تحتكر سوق الدواء في لبنان ، وهي محمية بالوكالات الحصرية الممنوحة لها ، وتتذرع بان وزارة الصحة هي التي تضع جداول الاسعار ، وبالتالي تحدد نسب الارباح من سوق مزدهر يستورد سنويا بما يقارب مليار و900 مليون دولار.

الوكالات الحصرية ليس موضع بحثنا هنا ، كما ان المجال لا يتسع لشرح جانب آخر مختلف من معضلة الدواء في لبنان واسباب ارتفاعه بشكل كبير قياسا الى الدول الاخرى ،،كما في ظاهرة "فرض " ادوية معينة على المرضى بتواطؤ الشركات المصنعة مع المستوردين مع المسشتفيات الكبرى وعدد كبير من ال​اطباء​ والصيادلة ، فهذا بحث آخر .

الامن الدوائي

ما ينبغي التركيز عليه هنا ، هو المهمة المطلوبة بشكل ملح وعاجل من الحكومة باطلاق خطة دعم واسعة وشاملة للصناعة الدوائية ، لتحقيق اهداف عدة يمكن ادراجها كلها تحت عنوان الامن الدوائي . ففي الدول المتقدمة تتراوح نسبة اسهام الصناعة الدوائية الوطنية في السوق بين 50 و 85 في المئة ، وهذه النسبة العليا تعني الاكتفاء الذاتي، على صعيد الامن الدوائي ، وهذا هو الاهم ، وان كانت غير كافية لتحقيق الاكتفاء التجاري والمالي . فالاهم هو حماية الصحة العامة من اي انتكاسات سياسية ، مثل حالات الحصار الدولي التي تصيب بعض الدول ، او ​الحروب​ ، بحيث يتعذر استيراد الدواء ، او اقتصادية ، كأن تفلس دولة ما ، كما هي حال لبنان حاليا ، فتعجز عن دفع الفاتورة العالية لاستيراد الدواء . وكلما زادت نسبة الصناعة الدوائية الوطنية في السوق المحلي ، كلما ارتفع مستوى حصانة البلد صحيا من ناحية ، وماليا من ناحية ثانية.

لبنان بعيد جدا جدا عن تحقيق الامن الدوائي مع 7 في المئة من انتاج الادوية التي يحتاجها السوق اللبناني ، لذا فان اي خطوات تشجيعية للصناعة الدوائية ، ولو كانت متواضعة في البداية ، ستحدث فارقا . على ان تستكمل تدريجيا للوصول الى نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي.

تسهيلات

ما تقوم به المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان (إيدال) جيد ولكنه غير كاف ، اذا اردنا نهضة شاملة لقطاع صناعة الدواء . فالمؤسسة تمنح مصانع الأدوية قيد الإنشاء حوافز وإعفاءات أبرزها إعفاء كامل من الضريبة على الدخل وعلى توزيع أنصبة الأرباح لمدة تصل الى عشر سنوات، وتخفيض على رسوم رخصة البناء ومنع إجازات عمل من كل الفئات، وتخفيض رسوم إجازات العمل والإقامة للعمال الأجانب، وإعفاء المشروع من رسوم ​التأمين​ العقاري.

المطلوب من الحكومة سلسلة اجراءات لتشجيع الصناعة الدوائية ، ابرزها :

1-الاستمرار بتقديم تسهيلات ​ايدال​ وزيادتها.

2-جلب المزيد من الاستثمارات الى هذا القطاع ، سواء من خلال جلب رساميل خارجية ، او الزام ​المصارف​ بتخصيص جزء من قروضها بفوائد متدنية لهذا القطاع ، ويمكن للدولة دعم بعض القروض.

3-اقامة المختبر المركزي للاشراف على إنتاج الأدوية بمواصفات عالمية ، واثبات جودة الدواء اللبناني بما يسهل اقناع اللبنانيين اولا ، ثم الاجانب ثانيا، بضروة استعماله وشرائه .

4- فتح ابواب التصدير للخارج لان انتاج دواء معين بكميات كبيرة قد لا يكون مربحا للمصنع اذا اقتصر سوقه على الداخل فقط .

5- تطبيق سياسة التعامل بالمثل بين لبنان و​الدول العربية​ ، فلبنان يستورد أدوية من الدول العربية تصل الى نحو 700 دواء، في حين لا أحد يستقبل أدويته ، ويستورد لبنان الادوية من 40 دولة ، ويصدر الى 11 دولة فقط .

التحدي

في مقابلة تلفزيونية قبل ايام اعلن وزير الصناعة عماد حب الله ان لديه توجها سيعرضه على الحكومة ، يقضي بالزام الجهات الضامنة في لبنان ، باعتماد الدواء اللبناني حصرا ، بشكل متدرج ، لنصل مع الوقت الى تخفيض قيمة الفاتورة الدوائية الى النصف .

هذا الامر ، وحده ، من شأنه أن يقلب الطاولة على جميع الاطراف ، فيسقط الاحتكار الذي تمارسه شركات استيراد الادوية ( ولكنه لا يفلسها لانها ستحتفظ بنصف السوق) ، ويضع مصنعي الدواء امام تحدي تطوير القطاع لتأمين مستلزمات السوق ، وانتاج المزيد من اصناف الادوية ، ويفضح حقيقة ما يقال عن ان بعض الجسم الطبي يتقاضى عمولات من الشركات الاجنبية والمستوردين مقابل اعتماد ادويتهم .

فهل تجروء الحكومة .. أم أن مافيا الدواء ، التي تحدث عنها حب الله ، وتشمل سياسيين وتجار واطباء واعلاميين .. ستكون اقوى ، وتبقي سوق الاستيراد مشرعا ليحقق منه المنتفعون مئات ملايين الدولارات سنويا ؟