في الوقت الذي تسعى الحكومة لمعالجة الاستحقاق المالي الداهم بتسديد او عدم تسديد سندات اليوروبوند بعد حوالى الاسبوعين ، يعود النقاش بقوة الى قضية ​الدين العام​ . وبغض النظر عن القرار المرتقب بشأن استحقاق 9 اذار ، فان الاهم هو وضع خطة طويلة الامد للتعامل مع هذا الدين ، كي لا تتكرر "حشرة " الدفع كل بضعة اشهر .

من الافكار الكثيرة المتداولة في هذا الشأن يتجاهل او يتناسى المعنيون قانونا سبق للحكومة اللبنانية برئاسة سليم الحص ان اقرته بانشاء صندوق مستقل للدين العام وإدارة هذا الصندوق من قبل جهاز خاص. حصل ذلك في العام 2000 ولكن الحكومة تبدلت بعد أقل من سنتين فذهب القانون ادارج ​الرياح​ .

الدكتور ​نزار يونس​ صاحب الفكرة والاقتراح يقول للاقتصاد : طرحنا الامر يومها على الرئيس الحص وكان ​جورج قرم​ وزيرا للمال ، وقد نجحنا في اقناع الحكومة واقر القانون ولكنه لم يطبق واليوم ندعو حكومة الرئيس حسان دياب الى احياء هذا القانون .

يعتبر الدكتور يونس ان حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة هو المسؤول عن ​الازمة المالية​ الراهنة ، ولا يمكنه التذرع بضغوط الطبقة السياسية عليه، فقد حدث ان تصدى ادمون نعيم عندما كان حاكما للمركزي لهذه الطبقة فرفض صرف مليون دولار (فقط ) بشكل مخالف للقانون فتم الاعتداء عليه جسديا ، وتصدى لهم بشجاعة ، ومن ثم استقال كي لا يسجل على نفسه وهو قامة قانونية فذة ان يخالف القانون .

وقال : المشكلة ان سلامة لا يطبق المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تحدد مهام الحاكم ، وبالعكس فانه يطبق كل المواد الاخرى التي تحدد ما لا يجب فعله ، ولكنه يفعله ، لذلك قررت تقديم دعوى قضائية على سلامة لانه المسؤول عن الوضع الحالي ، متسائلا هل يوجد دولة في العالم يسلفها البنك المركزي ؟ وهل تعرف الطبقة السياسية حقيقة ما يجري في مصرف لبنان؟ وهل تعرف حقيقة موازنته بارباحه وخسائرها ؟

ويضيف : في الوقت الذي يفترض ان يربح المركزي فانه سجل خسائر بـ 30 مليار دولار خلال عهد سلامة . والدولة اليوم مفلسة لان المركزي مفلس ، والانكى من ذلك انه يستحوذ على اموال ​المصارف​ ، والمصارف متعثرة ، واذا لم تحصل على اموالها ستفلس نهائيا وتضع الدولة يدها عليها.

بالنسبة لاستحقاق اليوروبوند ينصح يونس بعدم السداد لان المطلوب هذه السنة 4 مليارات دولار ، فكم سيستحق علينا العام المقبل ؟ .. 15 مليار ربما . الدولة مفلسة ولا تستطيع دفع ديونها واذا فعلت فانها ستهدد لقمة عيش المواطن لانها ستعجز عن تلبية الحاجات الاساسية مثل ​القمح​ والدواء و​المحروقات​ ..الخ ، والمطلوب اعادة هيكة الدين كله .. وكذلك اعادة هيكلة الدولة التي تنفق بلا حدود.

التعامل مع الدين العام يحتاج الى قرار كبير ، والمعروف عالميا وجود ​نادي باريس​ وهو مجموعة غير رسمية من ​الدول الدائنة​ التي تسعى لإيجاد حلول ملائمة للصعوبات التي تواجهها الدول المدينة في سداد ديونها. والمطلوب اقامة نادي مماثل يسمى نادي بيروت ليهتم بالدين اللبناني ، وينبغي ان يشارك فيه : المودعون ، المصارف ، مصرف لبنان ، ​البنك الدولي​ ، ​صندوق النقد الدولي​ ، ​البنك الاوروبي للاستثمار​ والصناديق العربية. وتكون ادارة هذا النادي لوزارة المال التي يتوجب عليها بداية اجراء التحقيقات اللازمة لمعرفة كل الحقائق عن الدين ، وهي حقائق محجوبة حتى الآن من قبل سلامة ، وبعد ذلك يمكن اجتراح حل ينقذ ما يمكن انقاذه .

ما هي حقيقة حجم الدين العام وطبيعته واسبابه ؟

يقول يونس الدين العام يبلغ اليوم 90 مليار دولار ، ويقولون ان عجز ​الكهرباء​ هو المسوؤل الاول عنه، وهذا غير صحيح، فالكهرباء مسؤولة عن خسائر تعطيل ​الاقتصاد اللبناني​ قد تصل الى مئتي مليار دولار ، ولكنها ليست مسؤولة عن ارقام الدين، لاننا بحساب بسيط يتبين لنا ان ديننا اليوم هو تراكم للفوائد الباهظة ، والفوائد على الفوائد ، ويمكن القول ان اصل الدين قليل ويمكن معالجته ، اما تراكم عشرات مليارات ​الدولار​ات من الفوائد فهو المشكلة.

صندوق خاص

يقول يونس في العام 1999 اصدرت كتابا بعنوان "لبنان الآخر " ، ضمنته فصلا خاصا بالدين العام حين كان يبلغ عشرين مليار دولار فقط، وكان بالامكان السيطرة عليه واطفائه لو اتبعت سياسة خاصة تفصله عن الموازنات السنوية ، وحصره في صندوق خاص، وتأمين ايرادات خاصة به .

واذا راجعنا موازنات السنوات السابقة لوجدنا انها كلها كانت تحقق فائضا اوليا ، ولكن ادراج خدمة الدين في ​الموازنة​ أدى حتما الى تسجيل ارقام عجز قياسية .

اليوم وبعد انشاء نادي بيروت وهيكلة الدين ينبغي تاسيس الصندوق المقترح نفسه لمعالجة ما يتبقى منه .

قبل 20 سنة

نعرض هنا مشروع الصندوق كما اقترحه الدكتور يونس قبل عشرين سنة لقيمته الوثائقية ، كما لانه يصلح اليوم ايضا لمعالجة مشكلة الدين الذي تضاعف اربع مرات منذ ذلك الوقت ، ولكن اجراءات معالجته تبقى هي نفسها .

من كتاب "لبنان الآخر"- من ​المحاصصة​ الى الدولة ، الصادر عن دار المسار عام 2000

الدين العام

بلغ الدين العام أرقامًا قياسية تخطّت كلّ الحدود والخطوط الحمر المتعارف عليها، وبات هذا الدين يهدّد بإفلاس الدولة المشلولة القدرة والمبادرة، وبكساد حاد في المرافق الاقتصادية، وبزيادة حدّة الأزمة المعيشية.

وقد أدّت السياسات النقدية المتّبعة إلى النتائج المأساوية البارزة من خلال:

1- تفاقم قيمة الدين العام، حيث بلغ متوسّط العبء على الأسرة الواحدة

(5 أشخاص) بحدود ثلاثين ألف دولار أميركي.

2- بلغ سعر صرف الليرة تجاه الدولار متوسّطًا لا يتناسب مع واقعنا الاقتصادي، وقد ساهمت معدّلات الفوائد التي تتجاوز في أحسن الحالات ضعفي الفوائد المعمول بها في البلدان المنافسة إلى ارتفاع حاد في كلف إنتاجنا، مما شلّ قدرة هذا الإنتاج أو تراجعه لدى عدد كبير من المؤسّسات اللبنانية.

3- أدّت معدّلات الفوائد العالية على ​سندات الخزينة​، إلى توظيف ادخارات اللبنانيين في سندات الخزينة ذات المردود العالي وإلى ضخّ سيولة المصارف في هذه السندات مما حرم الاقتصاد من ​السيولة​ وحال دون ​الإنفاق​ الاستثماري القادر على توفير فرص العمل والحد من ​البطالة​.

4- أدّت ​السياسة النقدية​ القائمة على تثبيت سعر صرف الليرة من خلال الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة، إلى تحويل اقتصادنا بشكل كامل إلى اقتصاد ريعي قائم على البحث عن دور وسيط لم يعد موجودًا وعن دور خدماتي تغير مضمونًا وشكلًا.

السياسة النقدية التي أدّت إلى الكارثة والتي ما زالت متّبعة، بالرغم من بعض الكوابح، هي في الجوهر سياسة انتحارية، لا بد من التخلي عنها، واللجوء إلى حلول شجاعة وصعبة في آن معًا. ولا بد من مصارحة اللبنانيين بكون زمان العجائب قد ولّى، وبأن على مجتمعنا أن يتحمل مسؤوليته في قيام الدولة العصرية، على أنقاض دولة المحاصصة. كذلك لا بد من مصارحة المواطنين بأن الاقتصاد الريعي هو سبب ​الركود​ والكساد، وبأن الاقتصاد المرتكز على الإنتاج هو وحده القادر على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على قواعد اقتصادية سليمة، وأن لا بد لنا، للخروج من الأزمة الاقتصادية، من تأمين السيولة في أسواقنا المالية، بفوائد متدنية أسوة بغيرنا.

وللخروج من الحلقة المفرغة علينا أن نلجأ إلى:

1-إنشاء صندوق مستقل للدين العام وإدارة هذا الصندوق من قبل جهاز رفيع الإدراك والتجربة.

2- تمويل هذا الصندوق بواسطة مداخيل استثنائية للدولة بما في ذلك:

- بيع الأملاك العامة المهملة أو المغتصبة أو السائبة كالأملاك البحرية والنهرية، وأملاك سكك ​الحديد​ والطرق والمسالك وغيرها، وتسييل هذه الأملاك خلال 10 سنوات.

- فرض ضرائب استثنائية تطال الأغنياء وخاصة على المظاهر الخارجية للثروة، وفرض رسوم عالية على اليد العاملة الأجنبية على أن ينتهي مفعول هذه الضرائب والرسوم بعد تسديد الدين.

- تحويل ​المساعدات​ الخارجية لهذا الصندوق والعمل على تحميل إخواننا العرب قسطهم في المساهمة.

- تحويل ناتج الخصخصة الى هذا الصندوق.

- تحويل فائض التنمية.

- تحويل فوائد مدخرات الدولة من ​العملات​ الصعبة إلى هذا الصندوق.

3- تحويل ​الديون​ المترتبة على الدولة على عاتق صندوق الدين العام لإدارتها وتسديد الموجبات في مواعيدها حفاظًا على سمعة لبنان ومصلحة الدائنين.

4- تحويل سندات الخزينة الحالية القصيرة الأمد إلى سندات بالعملات الأجنبية، حفاظًا على مصلحة المودعين وبفائدة لا تتجاوز معدل الفائدة الأساس على العملة المعنية في ​الأسواق الأوروبية​، وتقسيط هذه السندات على عشر سنوات مع ثلاث سنوات سماح وجعلها قابلة للتداول.

5- الحظر الكامل على ​إصدار سندات​ خزينة جديدة، بغية حصر الدين بما هو متوجب حاليًا وإعادة الثقة بإرادتنا وتصميمنا على الخروج من الأزمة.

6- تخصيص كامل موارد الدولة الحالية لحاجات الإنفاق في ​الميزانية​ وحظر الاقتراض خارج دائرة الهبات والقروض الميسرة والمساعدات المتوافرة للحاجات الإعمارية والإنمائية، وبذلك نحقق توازنًا بين دخل الدولة وإنفاقها.

من الطبيعي أن تلاقي هذه الخطة اعتراضات أساسية في الشكل والمضمون، من جراء تفرّد الدولة بقرارات وإجراءات من جانب واحد تفرضها على دائنيها، وقد يكون هذا القرار في الأحوال الطبيعية مجحفًا وتعسفيًا غير أن الخيار الآخر المتروك للدولة هو الإفلاس الأشد ضررًا وإجحافًا للدائنين وللبنان معًا، وباعتقادنا أن الشعب اللبناني مقدم على الخيار الشجاع الأقلّ ضررًا والذي من شأنه أن يحافظ على سمعتنا وينمي اقتصادنا من جراء:

1- وقف إصدارات سندات الخزينة ومن ثم وقف ضخ فائض السيولة من الأسواق.

2- عودة العملة الوطنية إلى دائرة التعافي ووقف التدخلات الآيلة إلى تحديد سعر صرفها والفائدة عليها بشكل مصطنع، وسيؤدي ذلك حتمًا إلى اعتبار العوامل الافتصادية التي تحدد سعر صرف العملة، كما انها ستؤدي إلى خفض الكلف الإنتاجية وتراجع ​كلفة المعيشة​.

3-سيؤدّي إصدار سندات خزينة بالعملة الأجنبية، قابلة للتداول، بفوائد محدودة، إلى تسييل هذه السندات من قبل أصحابها ولو بخسائر معينة بغية الدخول في مشاريع استثمارية أكثر جدوى وربحية من السندات.

تتناسب هذه التدابير مع المعطيات والآفاق المتاحة حاليًا وهي خيار من خيارات عدة ممكنة وهي بكلّ حال أفضل من الإفلاس، كما يمكن التفكير بخطط أخرى في سبيل الخروج من النفق الذي نراوح فيه.