في بلد ​التجار​ والمصرفيين، تعترف مختلف الأطراف السياسية أن هناك فساد. ولكن على أرض الواقع، لا يوجد فاسدون!

ففي ظل استمرار سيطرة الغموض والتكبيل على حال المواطن، ما زال المستقبل ضبابيا، و​الوضع المالي​ والاقتصادي "مكانك راوح". ويبقى عنوان الحل – أيا كان نوعه أو خصائصه – هو مكافحة ​الفساد​، أو بالأحرى، انتظار المبادرة الجدية للبدء بمكافحة الفساد؛ ولكن للأسف، "كل ما يفعله الإنتظار، هو مراكمة الصدأ فوق أجسادنا"، بحسب قول الكاتب ابراهيم عبدالله.

ومؤخراً، أصبح موضوع سندات "اليوروبوندز" الشغل الشاغل للبنانيين، وانطلق الجدال حول دفع استحقاق آذار القادم، أم التخلف عن سداده. ففي حالة الدفع، كيف ستتعامل الدولة اللبنانية مع الاستحقاقات المقبلة، المقسمة على النحو التالي: 4.5 مليار دولار في 2020، و3.9 مليار دولار في 2021، و3.7 في 2022، و3.1 في 2023؟ كيف ستتمكن السطلة الحاكمة من الإلتزام بكل هذه المبالغ، في ظل عدم قدرتها حتى، على دفع إستحقاق آذار؟

ورغم أن الدولة تتريّث وتأخذ وقتها، حتى نهاية شباط الجاري، لاتخاذ القرار بالنسبة الى هذا الموضوع، إلا أنه لا يخفى على أحد، عجزها عن تسديد ديونها ب​الدولار​، وذلك اعتباراً من العام الجاري، وبالتالي اضطرارها للجوء حتماً إلى الرصيد الضعيف المتبقي لدى المركزي، والمحصّل، بشكل أساسي، من أموال المودعين في ​المصارف اللبنانية​.

ومن هنا، ننتظر وصول وفد خبراء ​صندوق النقد الدولي​ هذا الأسبوع - بعد الطلب منه رسميا، تقديم المساعدة التقنية - للبحث مع المسؤولين، في الخيارات المتاحة لمعالجة مسألة سندات "اليوروبوندز".

فهل بات التخلّف عن السداد وشيكا ومحسوما؟ وما هي تبعاته؟ هل يتجه لبنان شيئا فشيئا نحو وصاية صندوق النقد؟

أسئلة وتساؤلات كثيرة، أجاب عليها المحلل المالي والاقتصادي، د. بلال علامة، في مقابلة خاصة مع "الاقتصاد":

أين تكمن أهمية اللجوء الى صندوق النقد الدولي لطلب المساعدة التقنية؟

يأتي تدخل صندوق النقد الدولي بالعادة، بأشكال ونماذج عدة، ومنها المشورة. ولأن لبنان عضو في الصندوق، ومشارك فيه، فيحق له طلب مساعدة تقنية، غير مشروطة وغير مدفوعة.

أما أهميتها، فتمكن في قدرة الصندوق على إرشادنا الى الطريق الصحيح، الذي من شأنه تخفيف المشاكل والأزمات التي نعاني منها.

وبالتالي، فإن المشورة التقنية وحدها، لا تلزمنا بشيء، ولكن اذا كان هذا التدخل مرتبط بدخول صندوق النقد أكثر فأكثر الى أعماق الأزمة اللبنانية، وفرض المزيد من الشروط، للوصول بالنهاية الى فرض وصايته، فعلينا هنا توخي الحذر.

هل تؤيد دفع استحقاق آذار أم التخلف عن سداده؟

يجب أن لا يدفع لبنان هذا الاستحقاق القادم، فهناك العديد من الدول الأخرى التي خاضت هذه التجربة، ولم تواجه أي مشكلة في المرحلة اللاحقة، بل على العكس، انطلقت عجلتها الاقتصادية بشكل طبيعي، بعد فترة من الوقت؛ على سبيل المثال، غواتيمالا، التي عانت من التعثر في مرحلة معينة، وتأخرت عن دفع سنداتها، ثم أعيدت الهيكلة والجدولة، وعادت للدفع مجددا.

علينا اختيار الحل الأقل ضررا والأقل خطرا على المواطن أيضا. فاذا قررت الدولة دفع الاستحقاق، سيكون التمويل آتيا من حسابات المودعين اللبنانيين؛ وذلك بحسب ميزانية ​مصرف لبنان​، التي نشرت في 15 كانون الثاني 2020. وهنا تكمن الخطورة الأكبر!

فاحتياطي المركزي اليوم، هو عبارة عن الاحتياطي الإلزامي الذي تضعه المصارف في مصرف لبنان، نتيجة وجود إيداعات لديها. وبالتالي سوف يتم استخدام أموال المودعين، لكي يدفع بذلك، الثمن المواطن اللبناني.

ولا بد من الاشارة، الى أن هذه المرحلة، تفرض الاهتمام أولا، بالأمن الغذائي، قبل السندات. ومن هنا، فإن اتخاذ قرار عدم الدفع، هو ممتاز، ولن يتأتى عنه أي تداعيات سلبية على الإطلاق. وفي المرحلة المقبلة، سوف يتم العمل على إعادة هيكلة الدين، ومن ثم جدولته.

ويجب التحقق أيضا، من كيفية وصول هذه ​الديون​ والسندات، الى هنا، وكيفية انتقالها. كما يجب التدقيق بها، لمعرفة ما اذا تم بيعها بأسعار فائدة أعلى بكثير من سعر السوق العالمي.

يحكى اليوم أن مصرف لبنان يعتزم رفع سعر الصرف الرسمي الى 2000. ما رأيك بهذا الكلام؟

لا أعتقد أن هذا الموضوع قابل للتطبيق في لبنان، ولا أحد لديه القدرة على تثبيت السعر الرسمي إلا مصرف لبنان، وهذا الأخير لن يبادر الى اتخاذ هذا القرار على الإطلاق. ففي علم الاقتصاد والمال، لا يمكن القيام بهذا الإجراء، وبالتالي، فإنه مجرد إشاعات بين الناس.

هل تتوقع أن يكمل الدولار منحاه التصاعدي مقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازي؟

أعتقد أنه من الممكن أن يتخطى الدولار عتبة الـ2500 ليرة، وقد يصل أيضا الى ما بين 2600 و2650. وذلك طالما أن الشح في عرض الدولار النقدي موجود.

في حين اذا الى توصلنا الى حلّ، في المرحلة المقبلة، وعادت التدفقات و​التحويلات المالية​ بالعملة الصعبة، وبات لدينا عرض للدولار، فمن الممكن أن يتراجع سعر الصرف. لكن هذا الأمر بعيد المنال.

ما هي توقعاتك المستقبلية؟ انفراجات؟ تكبيل؟ المزيد من القيود؟

المرحلة الحاليية صعبة للغاية، وتتطلب من الحكومة إجراءات سريعة ومدروسة جدا، وإلا سيستمر الانهيار، وستتزايد القيود الى حد كبير.

فالتراشق السياسي أدى الى تدمير البلاد في الفترة الماضية، ومن المفترض اليوم التخلي عن هذه التجاذبات بشكل نهائي، لأن المصلحة الكبرى أهم بكثير من المصالح الصغرى، والشأن الوطني أهم بكثير من الشأن الحزبي والثنائي والمكاسب الفئوية.

هل يمكن الخروج من هذه الأزمة قبل القضاء على الفساد؟

هذا الأمر مستحيل، فمشورة صندوق النقد الدولي ستفرض على لبنان إجراءات إصلاحية. وحتى الأوروبيين كانوا واضحين في مؤتمر "سيدر"، وما بعده، عندما قالوا لنا: "نحن نريد مساعدتكم ولكن فلستاعدوا أنفسكم أولا"، أي قوموا بالإجراءات اللازمة.

وبالنهاية، يمكن طمأنة اللبنانيين، بأن السلطة الموجودة اليوم تحت الضغط، مضطرة لاتخاذ قرارات إصلاحية. وأي خطوة إيجابية، سيكون مردودها واضحا على البلد.