موضوع الساعة في لبنان الاموال المهربة الى الخارج قبل وبعد ثورة 17 تشرين ، يضاف اليه منذ اشهر أو سنوات الكلام عن استعادة الاموال المنهوبة . والسبب كما يعلم الجميع ان لبنان بحاجة وجودية لتلك المليارات من ​الدولار​ات التي يحكى عنها . وبغض النظر عن الامكانية الواقعية لاسترجاع هذه المليارات ، وهي مستبعدة جدا ، فان الحديث يبقى مغريا ، وخصوصا ان اسابيع قليلة تفصلنا عن اول استحقاق خطير تواجهه الدول اللبنانية ، اي تسديد سندات اليوروبوندز في 9 اذار المقبل بقيمة مليار ومئتي مليون دولار .

تهريب الاموال ليس جديدا ، وقد فجر مدير عام أحد ​المصارف​ الكبرى في لبنان مفاجأة مدوية اذ أكد أنه مصرفه تولى تحويل ثروات 30 مودعا كبيرا الى الخارج في نهاية العام 2017 وبداية العام 2018 ، وذلك اثر ازمة استقالة الرئيس سعد الحريري من ​الرياض​ ، وما تبع ذلك من قضية احتجازه في ​السعودية​ . ويؤكد المصرفي الكبير ان بنوكا لبنانية أخرى فعلت الامر نفسه في ذلك الوقت. وتبلغ قيمة الاموال المهربة حينها بعشرة مليارات دولار.

الازمة المالية​ بدأت في ذلك الوقت ، ومع أن الازمة السياسية التي كانت السبب المباشر للتهريب ، طويت بعودة الحريري عن الاستقالة فور تحرره من حجز الرياض ، الا ان تداعياتها المالية استمرت مع بقاء رؤوس الاموال اياها في الخارج .

الرئيس سعد الحريري زار الرياض مرات عدة بعد تلك الازمة ، وأظهر مع المسؤولين السعوديين الذين التقوه ، وخصوصا الامير محمد بن سلمان ، اشارات واضحة على عودة الوئام بين الجانبين ، ولكن على ارض الواقع ، لم تترجم ذلك دعما سعوديا للحريري الذي تابع مهمته على رأس الحكومة وقتها ، ثم ترأس الحكومة التالية التي انبثقت عن ​انتخابات​ العام 2018 . وبدا واضحا القرار السعودي بترك الحريري ولبنان لمصيريهما القاتم .

القطاع المصرفي​ اللبناني ومن خلفه ​حيتان​ المال اللبنانيين ، من رجال اعمال وسياسييين فاسدين كانوا اول من فهم الرسالة السعودية ، واستمر ​تحويل الاموال​ الى الخارج بوتيرة سريعة ، وهذا امر قانوني بالكامل ، لان ​الثروات​ المهربة شرعية وفقا للقوانين اللبنانية ، ومحمية بالسرية المصرفية ولا يوجد اي دعاوى قضائية ضد اصحابها بحيث يمكن تجميدها .

لم يعرف اللبنانيون حجم هذه الاموال ، ولن يعرفوا يوما ، ولكنهم شعروا بوطأة غيابها ، اذ ان القطاع المصرفي انكشف ولم تعد لديه الملاءة الكافية لتغطية اعماله العادية ، سوى دفتريا ، وبرزت ازمة سيولة الدولار بشكلها البشع ، وترجمت باجراءات تعسفية للمصارف بحق المودعين ، وبنقص حاد في المبالغ المطلوبة للاستيراد .

وما زاد الطين بلة ما بدأ يكشفه ​السياسيون​ وآخرهم الرئيس ​نبيه بري​ ، باعلانه انه حتى الثروات الشخصية لاصحاب المصارف اصبحت في الخارج ، ولكن الهيئات القضائية المختصة تنفي ذلك . ليزيد الغموض بشكل متوحش ، في قت تحتاج هكذا ازمة مالية الى كل الوضوح والشفافية الممكنتين.

المصارف في اعلاناتها الرسمية تنفي كل السيناريوهات السابق ذكرها ، وتؤكد ان الازمة في لبنان سياسية بالدرجة الاولى ، وان الحل ممكن اذا توفرت الارادة السياسية ، والانقاذ يحتاج الى اجراءات معينة ، يمكن ان تبدأ باخراج لبنان من الازمة اعتبارا من حزيران المقبل، كما يقول حاكم ​مصرف لبنان​.

وتتحدث ​مصادر مصرفية​ مسؤولة ، في تسريبات عبر مواقع اخبارية مختلفة ، عن استمرار الهجمة على القطاع المصرفي بشقيه: مصرف لبنان والمصارف الخاصة، بالتزامن مع تقاعس سياسي فاضح من جانب الحكومة و​مجلس النواب​ عن تحمل المسؤوليات التشريعية والتنفيذية في التعاطي مع الأزمة السياسية بشقيها الداخلي والخارجي التي تتسبب بالأزمات الإقتصادية والمصرفية والنقدية الراهنة.

وتلفت المصادر الى أنه عوض تركيز الجهود على مطالبة الحكومة ومجلس النواب بتطبيق الدستور والالتزام بما تمليه عليهما واجباتهما ومسؤولياتهما، فإن هناك من يصر على مهاجمة ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ وصولا الى المطالبة بإزاحته، ومنظومة ​المصارف التجارية​ العاملة في لبنان وصولا الى اتهامها بسرقة أموال المودعين.

وتعتبر المصارف أنه اذا كانت التدابير التي لجأت إليها من جانب واحد في غير مكانها الصحيح بنظر الحكومة ومجلس النواب والسياسيين الذين يهاجمون مصرف لبنان والمصارف للحفاظ على أموال المودعين على المديين القريب والمتوسط، فما هي الإجراءات البديلة التي اتخذها السلطات الدستورية؟

الجواب لا شيء ، اولا ان لان السلطة السياسية متقاعسة الى حد العدم ، وثانيا لان اي اجراءات ممكنة لم تعد واقعية ، لان ​السيولة​ مفقودة ، بعد تهريب الثروات كلها ، وخصوصا بعد 17 تشرين ، والمطلوب استعادتها ، واذا كان من قرارات ممكنة اليوم فهي ستتركز على اعادة ما تم تهريبه. والتحقيق في ما اذا كان المال المهرب شرعيا ، ام نتاج فساد وسرقة .

هل هذا ممكن ؟

بالعودة الى مرحلة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية نهاية 2017 واجباره على الاستقالة ، فقد تزامن ذلك مع احتجاز الامير محمد بن سلمان كبار الاثرياء السعوديين ، بمن فيهم اعضاء من عائلته الحاكمة ، في ​فندق ريتز​ كارلتون ، واجبرهم على اعادة 100 مليار دولار من ثرواتهم المتضخمة الى الخزينة السعودية. قد شكلت تلك الواقعة موضوع تندر لدى اللبنانيين الذي طالبوا بفعل الامر نفسه مع حيتان المال هنا.

الدولة في المملكة العربية استعادت ما امكن من اموال الشعب السعودي لانها حزمت أمرها ـ وهي في الاصل قائمة وفاعلة ، فجرى تعديل القوانين الخاصة بادارة الاموال والثروات ، وتولى القضاء متابعة القضايا من الناحية القانونية ، كما تولت السلطة التنفيذية تنفيذ الاجراءات . أما في لبنان فالدولة الفعلية غائبة ، وما يوجد عندنا هي مجرد سلطة تختلط فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحكمها ​آلية​ محاصصة طائفية ومذهبية ، باسلوب عمل اقطاعي متخلف يقوم على الاستزلام والمحسوبية والزبائنية.

لن تستطيع حكومة الرئيس ​حسان دياب​ معالجة الازمة المالية الراهنة اذا لم تتمكن من تأمين السيولة فورا ، ويقدر وزير المال غازي وزني ، منذ اشهر ، وقبل ان يتولى الوزارة ، ان المطلوب خمسة مليارات دولار حالا ، ولكن خبراء اقتصاديين يرفعون الرقم أكثر . فالحكومة لاتملك الا مصادر ثلاث من أجل ذلك : فاما فرض ضرائب قاسية جدا على المواطنين واقتطاع نسب كبيرة من رواتب ​القطاع العام​ وتعويضات المتقاعدين عدا عن صرف الاف الموظفين غير المنتجين، وهذا سيؤدي الى ثورة جياع حقيقية . واما الحصول على مساعدات دولية عاجلة ، وهذا ليس متاحا الآن بسبب عدم ثقة ​المجتمع الدولي​ بالادارة اللبنانية . واما استرداد بعضا من المليارات المهربة لتعويم السوق الداخلي وسد النقص في السيولة .. وهذا ما لن يحصل.