يعاني الإعلام ال​لبنان​ي بشكل عام، من أزمة فعلية، في السنوات الأخيرة الماضية، أدّت الى تدهور أوضاعه وأوضاع العاملين فيه أيضا، في ظل ازدهار الصحافة الالكترونية و​مواقع التواصل الاجتماعي​ المختلفة، ما اضطر عدد كبير من الصحف الى الإقفال، وأجبر محطات تلفزيونية وإذاعية، على خفض عدد موظفيها. والسبب: ضغط الميزانيات.

فغياب ​الإعلانات​ بسبب الأزمة الراهنة والتحركات الشعبية، منذ 17 تشرين الأول، إضافة الى فقدان المال السياسي، وخاصة العربي، الذي كان يتدفق في الأعوام السابقة، هي أسباب أدت الى بدء التعثر المالي لمعظم المحطات.

ومن هنا، عمدت الشاشات المحلية "LBCI"، و"الجديد"، و"OTV"، و"المستقبل"، و"NBN"، الى تشفير قنواتها، وأوكلت مهمة قوننة بثها إلى شركة "هولكوم". في حين أن قناة الـ"MTV"، لم تبادر الى تبني هذا الموضوع، على أن توّقع العقد بمفردها بناءً على طلبها. أما "​المنار​"، فوضعها استثنائي، وهي حتما غير موجودة داخل الاتفاقية المشار اليها. كما يعود سبب عدم دخول "​تلفزيون لبنان​" في اللائحة، لأسباب قانونية، كونه مموّل مباشرة من قبل ​الدولة اللبنانية​.

وفي حين لم تتضح كيفية تطبيق قرار نقل البث ​التلفزيون​ي، من المجاني المفتوح إلى المشفّر، كما لم يتم تحديد تاريخ معيّن للعمل فيه، سادت حالة من الفوضى، فور الإعلان عن هذا الموضوع. فمن جهة، تساءل أصحاب محطات توزيع كابلات الدش، عن سبب الإعلان عن هذه الخطوة، دون إعلامهم بذلك، أو العودة إليهم حتى، كونهم يمثلون صلة الوصل ما بين المحطات التلفزيونية والمشاهد. كما تفاجأ المواطنون من هذا القرار، وخاصة من توقيته، وتخوفوا من أن يشكل همّا معيشيا إضافيا، على فواتيرهم الشهرية.

فعند الكشف عن الأسعار الجديدة، على أصحاب شركات توزيع الكابل، إما الاقتطاع من أرباحهم – مع العلم أنهم لن يحتملوا ذلك في ظل الأزمة الحاصلة – وإما زيادة الاشتراك الشهري على المشتركين، الذين لا يتحملون بدورهم أي زيادات، بسبب أوضاعها المعيشية الصعبة.

هل تطبق هنا مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد؟"، أي بعبارة أخرى: "هل سوف تعوّض القنوات اللبنانية غياب الإعلانات والتمويل، من خلال تشفير بثها، وعبر تحصيل الإيرادات من جيبة المواطن الذي يعاني بالأساس من مشاكل معيشية ومالية، تؤثر على نمط حياته وتحدّ من قدرته الاستهلاكية؟"، وهل بات مدخول اللبناني مباح للجميع؟ فعندما تحتاج الدولة الى التمويل... تلجأ الى المواطن، وعندما يرغب التجار في زيادة مداخيلهم وإرضاء جشعهم... يلجأون الى المواطن، ومؤخرا، عندما تراجعت إيرادات المحطات اللبنانية... الى أين لجأت؟ الى المواطن طبعا!

ورغم أن قوننة بث الشاشات هو موضوع قديم، وقد تمت مناقشته منذ سنوات عدة، ولكن ألا يعتبر توقيته ظالم وغير عادل، خاصة بالنسبة الى المواطنين ذوي الدخل المحدود، الذين يواجهون مشاكل في وظائفهم وفي ودائعهم أيضا؟

هل تغامر هذه المحطات بخسارة جمهورها نظرا الى الأوضاع المادية الصعبة؟ هل أن المحتوى الذي تقدمه هذه القنوات، ومدى تعلق المشاهدين به سيدفعهم الى تقبل أي زيادة مفروضة؟ هل أن مداخيل بعض العائلات ستسمح لهم بالحفاظ على هذه القنوات؟

بين رافض وراضخ

"الاقتصاد" سأل بعض المواطنين من مختلف المناطق اللبنانيية، حول هذا الموضوع، وانقسمت الآراء ما بين رافض وراضخ؛ فهناك من يرفض رفضا قاطعا تشفير القنوات، وبالتالي زيادة اشتراك الدش الشهري، ويفضل التخلي عن هذه المحطات بدلا من دفع المزيد من الرسوم، في حين يرضخ البعض الآخر لهذا القرار، مؤكدا أنه سيتقبل هذه الزيادة، بسبب عدم قدرته على التخلي عن القنوات المحلية، وعن برامجها.

وقالت مواطنة تدعى ليلى من منطقة بسابا، في ​قضاء الشوف​، أنها ستدفع أي زيادة مفروضة، لأنها لا تستطيع تخيل جهاز التلفاز بدون المحطات اللبنانية، التي تنقل آخر الأخبار الحاصلة، وخاصة في هذه المرحلة المفصلية.

ويوافقها الرأي المواطن فادي من بلدة ​المنصورية​، في قضاء المتن، موضحا أنه لا يمكن التخلي عن القنوات المحلية، لأنها صلة الوصل بين المواطن وبيئته، وتقدم الأخبار المفصّلة حول آخر الأحداث الحاصلة على الساحة، خاصة في ظل حالة الترقب التي تعيشها البلاد في الفترة الأخيرة.

كما لفتت المواطنة ساميا، من منطقة عاليه، أن هذه الزيادة المتواضعة "ما رح تكسرنا"، وشددت على ضرورة الوقوف الى جانب بعضنا البعض، في هذه المرحلة الصعبة، كي نحافظ على جوانب مجتمعنا كافة.

أما المواطن علي هو رب عائلة، من سكان الضاحية، فقد بسّط عملية الاستغناء عن المحطات التلفزيون المحلية، قائلا أنه في عصر التكنولوجيا، لم نعد بحاجة الى التلفزيون، لأننا سنحصل على المعلومات والأخبار بشكل أسرع عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، والمواقع الإخبارية الالكترونية. وبالنسبة الى الترفيه، أشار الى أن "​يوتيوب​"، يقدم أفضل البرامج الترفيهية والأفلام والمسلسلات، للصغار والكبار.

في حين قالت هدى من الطريق الجديدة، أن "هناك أشخاص، من الطبقة الفقيرة والمتوسطة أيضا، وخاصة ​المسنين​ منهم، يقضون أوقاتهم أمام شاشات التلفزة، ويعتبرون المحطات اللبنانية بمثابة ملاذ لهم، فهل ستحرمونهم ذلك أيضا، بعد حرمانهم من ​الكهرباء​، والماء، وفرص العمل، وضمان الشيخوخة، وغيرها من الأمور؟".

وأكد المواطن مروان، من منطقة زحلة، أنه يفضل التخلي عن القنوات اللبنانية، بدلا من عدم دفع أي زيادة شهرية، وأردف قائلا: "معقول يزيدوا الرسوم بهيدا الوقت الصعب، ويضيفوا على هموم الناس، شو ما بيحسو مع هالشعب المعتّر؟!".

بدورها، لفتت ماجدة، ابنة مدينة صور، والمقيمة حاليا في ​طرابلس​، أن خطوة قوننة المحطات غير مقبولة في هذا الوقت الصعب الذي يمرّ به لبنان والشعب اللبناني. وقالت: "ارحموا هيدا الشعب، وارحموا معاناته، فلا صاحب الدش ولا المشترك، قادر في الوقت الحاضر على دفع أي زيادة، مهما كانت متواضعة، لأن الأولوية اليوم للبقاء".

وبالاضافة الى آراء المشاهدين، تحدث "الاقتصاد"، مع بعض أصحاب كابلات توزيع الدش.

مصطفى خالد

وأشار مصطفى خالد، وهو أحد موزعي خدمة الكابل في بيروت، الى أن "ارتفاع أسعار خدماتنا، يرتبط بمبدأ العرض والطلب، وهو نتيجة حاجة أو رغبة كل مشترك للباقات التي نقدمها، حيث تختلف أسعار كل باقة تبعاً للسعر الذي تحدده الشركات مالكة حقوق هذه الباقات والمحطات، مع بقاء كلفة نقل الصورة والتشغيل والصيانة ثابتة لدينا".

وأضاف: "رغم إدراكنا للوضع المالي الصعب للمحطات المحلية، وحاجتها لمصادر دخل جديدة، وتخفيض كلفة البث عبر الأقمار الصناعية، من خلال دمجها بباقة واحدة وعلى تردد واحد، إلا أن هذه الخطوة باعتقادنا جاءت في توقيت خاطئ، في ظل الوضع الراهن الصعب الذي تعيشه البلاد على كل المستويات".

أما بالنسبة الى الأسعار، فأكد أنها "مرتبطة بما تقره هذه المحطات المحلية من زيادة على كل مشترك"، وتابع قائلا: "سنلتزم بالسعر دون زيادة أو نقصان، حين نتبلغ بهذه الزيادة رسميّاً".

ولفت خالد، الى أنه "في ظل ​الوضع الاقتصادي​ الراهن، فإن قسماً كبيراً من اللبنانيين لن يتقبل هذه الزيادة في الأسعار، وتبقى هذه الخطوة سيفاً ذو حدين، فإما أن تخسر المحطات المحلية نسبة لا بأس بها من المشاهدين غير القادرين على دفع هذه الزيادة، وإما أن يرضخ من يتابع هذه المحطات المحلية للوضع المستجد وللزيادة التي فرضتها هذه المحطات".

بسام الأسمر

بدوره أكد بسام الأسمر، وهو صاحب شركة لتوزيع الدش في منطقة الدكوانة، عدم فرض أي زيادة على الاشتراكات الشهرية، الى حد اليوم، لأن وضع الناس لا يحتمل.

وحول موضوع تشفير القنوات المحلية، أشار الى أنه لا يمكن لأي شركة أن تبث قناة معينة، من خلال دفع الاشتراك فحسب، بل عليها الحصول على ورقة سماح بالبث، أو ورقة حقوق. وكانت القنوات المحلية لا تفرض شراء الحقوق في الماضي، لكنها تستغل الآن ضعف الإعلانات للحصول على الإيرادات من جيوب المواطنين.

ولفت الأسمر، الى أنه في حال فرضت القنوات اللبنانية، أسعارا خيالية، فهو كصاحب شركة، لن يبادر الى الاشتراك، بل يفضل إغلاق شركته، لأن عمله لن يعود مربحا بعد ذلك، موضحا أن بعض المناطق لا تحتمل قنوات معينة، بسبب أسعار حقوقها المرتفعة. وأضاف: "في ظل الأوضاع الصعبة القائمة، لا يستطيع اللبنانيون تحمل أي زيادة على اشتراك الدش الشهري، وبالتالي، ستخسر القنوات نسبة كبيرة من المشاهدين، بسبب خطوة التشفير، خاصة اذا عمد عدد لا بأس به من شركات توزيع الدش الى عدم بث هذه المحطات".

قوننة قانونية؟

قطاع الدش تسوده الفوضى، كغيره من القطاعات في لبنان، كما أنه يفتقد الى قانون يرعى عمل أصحاب الكابلات. وبعد الإعلان عن خطوة التشفير، اعتبر بعض المتابعين، أنها ضرورية لكي يحفظ كل صاحب حق حقه، في حين رأى البعض الآخر أن هذه العملية غير قانونية، وتعتبر انتهاكا لقانون الإعلام المرئي والمسموع في لبنان.

وقال المهندس والخبير المحلف في شبكات الاتصالات والألياف البصرية، سليمان فرح، في حديث خاص لموقع "الاقتصاد"، أن هذا الإجراء غير قانوني؛ فعندما أعطيت المحطات اللبنانية حق البث، تم الاتفاق على شرطين: الأول أن تبث الفئة الأولى أو الإخبارية، بشكل مجاني (free to air)، والثاني أن تغطي مساحة محددة من لبنان.

ولفت الى أن هذا القطاع، كغيره، يفتقد الى التنظيم، فقد صدر القانون المتعلق بالتلفزيونات من الفئة الأولى فقط، في حين أن قانون البث المرمز، الذي يحدد عملية التشفير، لم يصدر بعد.

وأشار فرح الى أن المحطات اللبنانية تحاول منذ سنوات، تشفير كل المحتوى خارج لبنان (أي عبر الأقمار الصناعية)، اذ تعتبر أنها لا تحصل، بهذه الطريقة، على الإيرادات من الإعلانات. لكن مشكلة كبيرة، تكمن في أن الهوائيات الموجودة على الأراضي اللبنانية متوقفة عن العمل، وبالتالي، فإن عملية البث أو الإرسال تتم عبر الأقمار الصناعة. ولقد تم حل هذه المشكلة مع المنصات أو الشبكات الأرضية، مثل "Cablevision"، "UCL – United Cable Lebanon"، و"ECOnet"، في حين بقيت مناطق قليلة جدا، غير مغطاة، تستفيد من صحون استقبال الأقمار. لكن هذا الصحن، سيصبح مشفرا في فترة، وستسعى هذه الأقليات للجوء الى المنصات الموجودة من أجل الاشتراك بخدماتها.

وحول تحديد آلية العمل المتبعة من قبل التلفزيونات اللبنانية، أوضح فرح، أن هذه الآلية تصطدم في كيفية إيصال هذه العملية الى الناس، اذ تعتبر المحطات أنها لم تعد تحصل على التمويل، لا من الداخل ولا من الخارج، وبالتالي وجدت نفسها أمام خيارين: إما الإقفال وإما التشفير. واذا لجأت الى التشفير، كيف ستحصل على الأموال؟ ومن سيدفع الفاتورة؟ فقد حاولت في السابق أن تلعب على الكلام، تجنبا لنقمة الناس، ورمت المسؤولية على أصحاب الشبكات، موضحة أنها لم تطالب المواطنين بدفع أي مبلغ معين، بل طلبت فقط من أصحاب الشبكات، الدفع لها. ولكن من أين سوف يدفع صاحب الشبكة؟ فهو يحمل الإشارة فقط، واذا فرضت عليه القنوات اللبنانية رسما معينا، ستحصل وحدها على هذا الرسم، لأن شركات التوزيع لا تتقاضى شيئا على المحليات، ومن هنا، في حال تم تطبيق هذا الإجراء، قد يفضل صاحب الشبكة حينها الإقفال أو الاستغناء عن تلك المحطات.

وأكد أن أي مبلغ إضافي للتلفزيونات اللبنانية، يجب أن تحصل عليه مباشرة من جيبة ​المستهلك​، دون أي مواربة. وهناك طريقتان لجباية المال؛ إما بمعزل عن الباقات الأخرى، وإما عبر شمله في باقة ملزمة. أما النظرية الثانية، فتتمثل في تحييد المحطات اللبنانية عن القنوات الأخرى، لكي يختار الناس المحطة التي يريدون مشاهدتها فقط، ودون سواها، وباتالي دفع اشتراكها وحدها، الذي سيكون حتما، أقل من الباقات المفروضة في الوقت الحاضر؛ ونحن بانتظار القرار النهائي بشأن هذا الأمر.

وذكر فرح، أنه في عام 2019، تم توقيع اتفاقية بين "LBCI"، و"OTV"، و"الجديد"، لإنشاء شركة "LDN"، برئاسة مدير عام قناة الـ"OTV"، روي الهاشم. وقد وقعت هذه الشركة، عقدا مع مجموعة "هولكوم" - التي تمتلك "Cablevision" و"ECOnet" – بالاضافة الى شركة "سما"، وتم إطلاق ما يعرف بـ"SCOM" - أي "Sama" و"Holcom". وبالتالي، احتكرت "SCOM" السوق اللبناني، بكل المحتوى، وباتت تفرض شروطها على الأرض.

وقال: "برأيي الشخصي، يجب على القنوات التشفير بشكل فردي، وليس جماعي، لكي يكون المبلغ الشهري مفروض فقط على الأشخاص الراغبين في مشاهدة قناة معينة". وتابع: "لقد تبنت الـ"MTV" هذا الخيار، في حين أن الشركات الأخرى اتجهت لبيع حقوقها الى "SCOM"، التي تتصرف بحسب مصلحتها الخاصة، من أجل ​الترويج​ لباقاتها".

أما بالنسبة الى قدرة اللبناني المادية على دفع الزيادة الشهرية، فأكد فرح أن طريقة استهلاك اللبناني غريبة ومفاجئة، وتتعلق بحالته النفسية، ومن هنا، لا يمكن أن نعرف كيف سيتجاوب مع هذه، وبالتالي، علينا الانتظار لنرى.