في مواجهة الازمة ال​اقتصاد​ية – المالية التي تصيب لبنان وتهدده بالانهيار تعهدت الحكومة في بيانها الوزاري الذي نشرت مسودته اليوم بوضع برنامج عمل يتضمن ​خطة طوارئ​ إنقاذية، وسلة إصلاحات محورها وورشة إصلاح قضائي وتشريعي و​مكافحة الفساد​ وتصحيحات ومعالجات في المالية العامة، ويواكبها اجراءات اقتصادية تحفّز الإنتقال من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج بالاضافة الى شبكة الأمان الاجتماعية.

هذه العناوين الكبيرة تحتاج الى ثلاث سنوات لتطبيقها ، وقد لحظت الحكومة في بيانها ثلاث مراحل، الاولى مدتها مئة يوما ، والثانية سنة ، والثالثة من سنة الى ثلاث سنوات . نستعرض هنا ابرز عناوين كل مرحلة ، لنعود ونناقش الاجراءات العاجلة التي ينبغي على الحكومة اتخاذها في المئة يوم الاولى لتفادي الانهيار .

الإصلاح الشامل

تتضمن خطة المئة يوم من تاريخ نيل الحكومة الثقة الإصلاحات القضائية واستقلال القضاء، وإقرار استراتيجية مكافحة الفساد وحق الوصول إلى المعلومات، بينما خطة السنة تلتزم باسترداد ​الأموال المنهوبة​ وإقرار قوانين تحمي ​المرأة​ وحقوقها وإقرار قانون منح الجنسية لأولاد الأم اللبنانية، فيما تشمل الخطة التي حُددت ما بين سنة وثلاث سنوات إطلاق ورشة قانونية لتحديث القوانين وتحسين السجون وتطوير قصور العدل.

وفي السياق الإصلاحي، تطرّق البيان الوزاري الى مؤتمر "سيدر" الذي يشترط حصول لبنان على ​المساعدات​ بتنفيذ هذه الإصلاحات، كما يتضمن البيان خطة مالية متوسطة الأجل لضبط الاختلالات المالية ووضع العجز في الناتج المحلي في منحى تراجعي، من خلال تنفيذ إجراءات، منها مكافحة التهرب الضريبي وإصلاح ​النظام الضريبي​، باعتماد الضريبة التصاعدية الموحدة على مجمل المداخيل، ومكافحة التهريب من المعابر الشرعية وغير الشرعية.

كما جاء في البيان أن الخطة الإنقاذية تتضمن خطوات مصيرية وأدوات علاج ستكون مؤلمة، بحيث لا يمكن لأي خطة إنقاذية أن تنجح ما لم نقم بتخفيض الفائدة على القروض والودائع وذلك لإنعاش الاقتصاد وتخفيض كلفة الدين. وتدعو هذه الخطة الى التواصل مع كل المؤسسات والجهات المانحة أو الداعمة من أجل تأمين الحاجات الملحة والقروض الميسرة وتغطية الحاجات التمويلية للخزينة. وفيما تتعهد الحكومة بالعمل على حلول سريعة واتخاذ إجراءات ضرورية لتأمين ​التيار الكهربائي​ باستمرار وتصفير العجز وخفض الكلفة على المواطنين، أشارت إلى أنها ستعتمد خطة ​الكهرباء​ التي كانت قد أقرّت في الحكومة السابقة ونصّت عليها الورقة الإصلاحية التي طرحها رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ بعد أيام على بدء التحركات الشعبية، أي تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء كجزء من إصلاح قطاع الكهرباء، كذلك الاسراع في إجراء دورة التراخيص الثانية في قطاعي النفط و​الغاز​.

وتطرق البيان الى تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، من خلال إشارته الى إقرار الاستراتيجية الوطنية للنقل البري. وتضمن في صفحاته الـ 17 عناوين عريضة ترتبط بتحسين الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبنانيين، منها تقوية شبكات الأمان الاجتماعية عبر تأمين التعليم لكل فئات المجتمع وتعزيز التغطية الصحية و​سلامة الغذاء​، إضافة الى تطوير الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي وخدماتي إلى إنتاجي، مع تقديم تسهيلات من ​مصرف لبنان​ وحثه على ضخ ​السيولة​ ب​الدولار​ ل​استيراد​ المواد الأولية، وذلك في ظل الأزمة التي يعاني منها ​التجار​ في هذا الإطار مع الإجراءات المصرفية التي تحدّ من قدرتهم على تحويل الدولار لاستيراد المواد الأولية.

منع الإنهيار أولاً

لم تحدد الحكومة بعد اجراءاتها السريعة التي توقف الانهيار ، وهذا بطبيعة الحال ليس من مهام البيان الوزاري بوصفه برناج عمل عام، وانما المطلوب اتخاذ قرارات حكومية في الجلسات الاولى لمجلس الوزراء بعد نيل الثقة ، كخطة عاجلة وضعت عناوينها مجموعة من خبراء الاقتصاد المستقلين .وتبدأ بـ :

1-ادارة دقيقة للاحتياطيات الأجنبيّة المتناقصة بسرعة لحماية الليرة اللبنانيّة من خلال تدابير متعددة، من بينها اتخاذ إجراءات صارمة لضبط تهريب ​رؤوس الأموال​، سواء كانت ثروات شرعية غير مرتبطة بشبهات فساد ، أو ثروات سياسيين وفاسدين ، وهذه الفئة الاخيرة يجب ان تخضع للتدقيق والمساءلة القضائية ، ويجري تداول رقم يناهز الملياري دولار كاموال تم تهريبها الى الخارج منذ اندلاع ثورة 17 تشرين ، وتحديدا في الاسبوعين اللذين اقفلت فيهما ​المصارف​ ابوابها !

فالمعروف ان الاستمرار بتثبيت سعر صرف الليرة رسميا (بغض النظر عن سعر الدولار في السوق الموازي ، اي عند الصرافين ) ، يستنزف المزيد من احتياط مصرف لبنان المركزي ، في حين ان المصارف تحافظ على ملاءة جيدة من ​العملات​ الصعبة بسبب التقنين الذي تفرضه على ​سحوبات​ المودعين.

وهنا يجدر بالحكومة تخفيف العبء عن مصرف لبنان الذي يتحمل من رصيده تغطية فروقات السعر بين دولارين في كلفة استيراد النفط و​القمح​ والدواء (بنسبة 85 في المئة) ، والعمل على اشراك المصارف والقطاع الخاص في هذه العملية ، بالاضافة الى تأمين واردات اضافية تساعد المركزي على تعزيز احتياطاته ، مثل المساعدات الخارجية، والتي يرجح ان لا تأتي بسرعة ، فلا يبقى سوى اجراءات داخلية تتيح تحويل كل واردات المؤسسات العامة الى المصرف المركزي ، واخضاعها لمراقبة دقيقة في الانفاق .

2- وضع خطّة سريعة لخفض الدين وكلفة خدمته تشمل تقاسماً عادلاً لأعباء هذا الدين بين فئات المجتمع. هذه الخطة ينبغي التفاوض عليها بين الحكومة والبنك المركزي والمصارف.

يعلم الجميع ان ​الدين العام​ّ اللبنانيّ يتخطى 150% من الناتج المحليّ الإجماليّ فيما يُعتبر الحدّ الآمن عالمياً 50% من هذا الناتج. وستكون هذه المرّة الأولى التي يلجأ فيها لبنان إلى خفض الدين وينبغي أن تكون المرّة الأخيرة، وأن تتبع العملية معايير واضحة على صلة بالظروف الحالية ، لان هذه الخطوة ستؤثّر على سمعة لبنان كوجهة لتدفّق رؤوس الأموال. لذلك، ينبغي بذل أقصى الجهود الممكنة للحدّ من التداعيات على سمعة لبنان .

لذلك ينبغي خفض الدين بشكل عميق للغاية للتأكّد من عدم الاضطرار إلى اتّخاذ هذه الخطوة مجدداً في المستقبل. وقد اقرت الحكومة في بيانها الوزاري مبدأ خفض الفائدة كاجراء مؤلم وضروري للانقاذ . وما ينبغي التشديد عليه أن يراعي الحلّ المطروح لمعالجة عبء الدين توزيعَ عبء الخسائر بشكل عادل بين حاملي ​الديون​ الوطنية والدولية من الدين العام، عبر تحميل العبء الأكبر لأولئك الذين استفادوا أكثر من غيرهم من مدفوعات الفائدة الكبيرة في السنوات الماضية ( اي المصارف ). نظراً لحجم الخسائر الكبير الذي سيقع ، لذا يجب توزيع هذه الخسائر على حاملي أسهم وديون البنوك، كما وبعض كبار المودعين الذين تتخطّى ثرواتهم عتبات معينة .

هذه الخطوة المؤلمة ستتيح ​القطاع المصرفي​ أن يخرج أقوى من المحنة، لان البديل ، وهو القائم اليوم ، تراجع أكيد لقدرة الدولة اللبنانية على السداد ، وبالتالي اقتراب المصارف من حقيقة ان ديون الدولة ستصبح هالكة ، اي غير قابلة للتحصيل ، والنتيجة الطبيعية لذلك هي شطبها بالكامل ، كما يجري مع الشركات المفلسة في جميع دول العالم ، وهذا ما قد يؤدي الى ​افلاس​ عدد من المصارف .

3- خطة واضحة وقابلة للتنفيذ من اجل إعادة هيكلة ماليّة مصحوبة بخطط موثوقة لمكافحة الفساد وتشمل الاتّفاق سريعاً على تخفيض كبير للنفقات غير المجدية والمرتبطة بالفساد والهدر وسوء الإدارة، بالترافق مع إصلاح عاجل لقطاع الكهرباء. وينبغي أن تتزامن هذه التدابير مع قرارات تقضي بتنفيذ الإصلاحات المؤسسيّة التي أرجئت لفترة طويلة. ومع أن هذه الإصلاحات لن تكون لها آثار إلا على المديين المتوسط والبعيد، إلا أنّها ضروريّة لتعزيز مصداقيّة الحكومة.

وعلى صعيد النفقات، ينبغي إطلاق الجهود لاستعادة الأموال العامّة المنهوبة ، وقد تعهدت الحكومة بالعمل على ذلك خلال سنة واحدة ، على أمل ان تكون هذه المهلة كافية ، لان تجارب الدول الاخرى توحي بخلاف ذلك . كما ينبغي البدء بإعادة هيكلة المؤسسات العامّة، بما في ذلك دمج المؤسّسات الفائضة أو إلغاؤها، وهذا ما ذكره البيان الوزراي ، شرط ان لا تدخل السياسة والطائفية فتمنع الغاء صناديق فائضة مثل مجلس الجنوب ومجلس الانماء والاعمار وصندوق المهجرين وغيرها كثير ..

بالاضافة الى خفض أجور كبار الموظّفين الحكوميّين وامتيازاتهم ، وهنا نعود الى القضية الاكثر اشكالية في السنوات الاخيرة ، اي سلسلة الرتب والرواتب التي ينبغي اعادة النظر فيها بحيث تشمل التخفيضات الرواتب الكبيرة والمبالغ فيها ، وحماية الموظفين ذوي الرواتب العادية .

وأخيرا على صعيد الإيرادات الحكوميّة، يتعيّن على الحكومة توحيد نظام ضريبة الدخل وجعله أكثر تصاعديّة، بالإضافة إلى معالجة التهرّب الضريبيّ وتوسيع القاعدة الضريبيّة في الوقت نفسه من خلال إزالة الإعفاءات الضريبيّة لقطاعات وشركات معيّنة. وقد ذكر البيان الوزراي هذه الاجراءات التي باتت اكثر من ضرورية وملحة ، وينبغي المضي بها ، ومقاومة ممانعة الفئات المستفيدة من الوضع الحالي ، اي اصحاب ​الثروات​ الفاحشة والتجار المتهربين من الضرائب على انواعها.