عندما أقر ​مجلس النواب​ ​موازنة​ العام 2019 في نهاية العام ، اي بعد ان سبق صرف اعتماداتها ، انتقد الخبراء ذلك ، ولكنهم اكدوا ان تلك ​الموازنة​ اعطت اشارة ايجابية على طريق تخفيض العجز وإجراء الإصلاحات التي قد تمهّد لإنتشال البلاد من الأزمة الإقتصادية.

وقيل يومها ايضا أن الإصلاحات الحقيقية ستُحال إلى موازنة العام 2020، التي انطلق ​قطار​ تحضيرها سريعا بعد انجاز موازنة 2019 ، وقد قال الدكتور غازي وزني يومها، بصفته خبيرا اقصاديا انه "يُتوقع من موازنة العام 2020 أن تكون الموازنة الأساسية التي تبدأ منها الإصلاحات الحقيقية، والتي ينتظرها ​المجتمع الدولي​ والدول المانحة ووكالات التصنيف العالمية".

اليوم يتولى وزني وزارة المال في الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور ​حسان دياب​ ، وقد بدأ مجلس النواب مناقشة مشروع قانون الموازنة كما وضعته حكومة الرئيس ​سعد الحريري​ ودرسته وعدلته لجنة المال والموازنة.

وفقا لرئيس اللجنة النائب ​ابراهيم كنعان​ فان الموازنة الجديدة تشمل تعديلات كثيرة عن مشروع موازنة 2019 ، وفيها تخفيضات تناهز الـ 1000 مليار ليرة، وتصل الى 979 مليار ليرة، ، ويطال 10% على المواد الاستهلاكية التي ترد في اعتمادات الوزارات والخدمات الاستهلاكية وبدلات الأتعاب التي خفضت بنسبة 20%، باستثناء الجمعيات التي تعنى بالرعاية الاجتماعية. كما تم تخفيض بنسبة 100% في ما يتعلق بتشييد أبنية جديدة طالما لم يتم البدء بالمبنى الحكومي الموحد حتى الساعة.

كذلك طاولت التخفيضات التجهيزات والاساس والمفروشات بنسبة تصل الى 50% ، مع الاخذ بالاعتبار بعض القطاعات، كالجيش والقوى الامنية. كما طالت التخفيضات بعض قوانين البرامج، والمجالس والصناديق، بما يصل الى 979 مليارا. وكذلك تخفيض 500 مليار من اعتمادات المركز التربوي.

في المقابل اعلن كنعان ان ​الواردات​ انخفضت في الموازنة الجديدة بنحو 400 مليار ليرة بسبب الازمة القائمة منذ 17 انتفاضة ​تشرين الاول​ .

في المحصلة فان الموازنة ظلت اسيرة معادلة التخفيض والجباية، والبحث عن سبل تخفيض العجز باساليب تقشفية .. ولم تذهب باي اتجاه اصلاحي.

ضرورة الموازنة

لا شك ان الموازنة حاجة ضرورية لانتظام العمل في المؤسسات، ولكن مما يبدو فان مشروع الموازنة المعروض على مجلس النواب اليوم يعاني من شوائب ونواقص عديدة ، اهمها ان الواردات فيها غير مؤكدة ، والاصلاحات الموعودة من العام الماضي غائبة .

بغض النظر عن دستورية عقد جلسة مجلس النواب لاقرار الموازنة في ظل حكومة لم تنل ثقة النواب بعد ، وهي لم تضع هذه الموازنة انما ورثتها من الحكومة السابقة ، فانها تضمنت خطوات تهم المواطنين، منها ‏رفع الضمان على الودائع من 5 ملايين ليرة الى 75 مليون ليرة، الأمر الذي يطاول 86 في المئة من اللبنانيين، ‏وتسقط التعقبات عن المتعثرين في القروض السكنية والصناعية والزراعية والسياحية والبيئية حتى نهاية ‏حزيران، وتمدد مهلة الاعفاءات على الغرامات ستة أشهر، كما ترصد 25 مليار ليرة لتثبيت عناصر الدفاع ‏المدني، وتؤمن ​الاعتمادات​ اللازمة بقيمة 12 ملياراً لـ 12 ألف مضمون اختياري للدواء والاستشفاء كما قال ‏النائب ابرهيم كنعان.

وكل هذه الاجراءات تندرج عمليا في اطار تصريف الاعمال في وضع طارىء واستثنائي وليس البناء للمستقبل .

في المقابل فان المشكلة تكمن في صحة الأرقام فلجنة المال والموازنة تقول انها خفضت المصاريف من 800 الى 1000 مليار من ‏المشروع الوارد من الحكومة، وفرض الرقابة على القروض والهبات، وتحويل أموال شركتي الخليوي والمرفأ ‏مباشرة الى خزينة الدولة، ما يسمح بوقف الهدر في هذا المجال، ولكن يبقى الخفض في الواردات هو التحدي الاكبر ‏ويزيد الازمة تفاقماً. وستكون الأرقام التي بنيت عليها الموازنة غير موجودة، في رأي ​الخبراء الاقتصاديين​ ، وستحلّ مكانها أرقام جديدة لا علاقة لها بالأرقام القائمة‎.‎

نواقص

الاهم هنا ان الاصلاحات المطلوبة والاجراءات بعيدة المدى التي من شأنها وقف التدهور في المالية العامة ، غائبة تماما . ومع ان وزير المال غازي وزني سبق وتحدث عنها مطولا خلال الاشهر والسنوات الماضية قبل تولي الوزارة ، الا انه اكتفى حاليا بدور المراقب والمشاهد لموازنة لم يضعها ، وذلك لاسباب سياسية .

‎ ما يغيب عن الموزانة الجديدة ، وفقا للخبراء ، تحديد صريح للسياسات المالية للدولة ورؤيتها الى جملة من التحديات مثل: ما هو ‏الموقف الرسمي من الاستدانة والاستحقاقات وفرضية التخلف عن السداد؟ ما هو الموقف الرسمي من إعادة هيكلة ‏ديون لبنان؟ هل هي إحدى أولويات وركائز برنامج الحكومة للحد من الانهيار وإعادة النهوض الاقتصادي؟ ما هو ‏الموقف الرسمي من حجم الدين الكبير جداً للبنان، وهل تعتبره غير مستدام نظراً الى ديناميته السلبية في ظل ‏​الانكماش الاقتصادي​ المتوقع والذي يُقدر بأنه قد يشارف اكثر من 12% سلباً، اضافة الى مستوى الفوائد ‏المرتفعة، مع الاشارة الى أن ميزانيات ​المصارف​ و​مصرف لبنان​ متهالكة ولا تستطيع الاستمرار في تمويل ‏العجوزات وطبع العملة من دون خنق الاقتصاد وزيادة ​التضخم​ والضغوط على الليرة؟ ما هي الاشارة المنوي ‏ارسالها الى الأسواق عن استحقاق ثلاثة اصدارات لسندات الاوروبوندز تتوزّع كالآتي: 1.2 مليار دولار في ‏آذار، و700 مليون دولار في نيسان، و600 مليون دولار في حزيران، خصوصا اذا امتنعت ​المصارف اللبنانية​ ‏عن قبول عملية "السواب" المقترحة من مصرف لبنان؟

وزني والتصحيح

بالعودة الى الوزير وزني فقد اعلن ، قبل توليه الوزارة ، ان لا خيار أمام السلطة إلا إجراء الإصلاحات ،لأن تجاهلها في موازنة العام 2019 سمح بتدهور الأوضاع أكثر فأكثر، وفي العام 2020 تحتاج البلاد إلى إصلاحات جذرية، فالوضع صعب، والسلطة لم تعد مخيّرة، لأن أي تدهور جديد سيكون كارثيا ، وعلى الحكومة إرسال إشارات إيجابية للمجتمع الدولي ومؤسسات التصنيف، لأن المخاطر باتت كبيرة جداً، والفرصة مفتوحة من الآن حتى إنجاز موازنة حقيقية.

واعتبر وزني حينها ، ان العام 2020 هو عام مفصلي والموازنة يجب ان تكون اصلاحية وقد تأخذ اجراءات موجعة بهدف ضبط الانفاق وخفض العجز... وان لم تكن الموازنة اصلاحية فالافضل ألّا تَقر اي موازنة ، معتبرا ان القوى السياسية لم تعد مخيّرة، فتصحيح المالية العامة شرط اساسي ومنطلق لمنع السقوط في انهيار كامل في العام 2020.

الإصلاح المؤجل

لا شك ان مجلس النواب سيقر مشورع موازنة 2020 وقد فعل لان الاكثرية النيابية بيد فريق سياسي واحد يدعم الحكومة الحالية ، والتي تعتقد قوى سياسية وشعبية كثيرة انها تناقض المطلب الاساسي لثورة 17 تشرين بقيام حكومة اخصائيين مستقلين . ولكن التحدي الابرز هو ان تخرج الحكومة ، التي يعتبرها كثيرون حكومة امر الواقع ، من اسلوب الترقيع ، والذهاب الى وضع سياسة نقدية مالية اقصادية واقرار اصلاحات جذرية في بنيان الدولة ، وابتداع خطة نهوض اقتصادي شامل .

هذه الامور ستعجز عنها هذه الحكومة ، ولا يكفي القول ان البيان الوزاري الذي تعده سيركز على الاقتصاد والمال ، فالحل الجذري والشامل لن يتم اذا لم تطلق حوارا وطنيا مع كل المكونات السياسية وغير السياسية في البلد، حول الخيارات الكبرى ، ينتج عنه خطة استراتيجية بعيدة المدى ، تتفادى اولا الانهيار ، وتعالج ثانيا ازمة الدين، والانكماش الاقتصادي .. وتطلق النمو .