تركزت في الأيام القليلة الماضية، الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية على المصرف المركزي و​المصارف​ التجارية، وشهدنا موجة من أعمال الشغب والتكسير التي طالت واجهات المصارف، دون سواها من المحلات. ولقد جاء ذلك كرد فعل، احتجاجاً على إجراءات المصارف، والـ"capital control" غير المعلن، والإذلال الذي يتعرض له المودعون لتحصيل أموالهم.

العنوان الرئيس للتحرك، هو استهداف المصارف، لكن مفاعليه الضمنية، تهدف الى ضرب الطبقة الحاكمة في المكان الذي يوجعها الأكثر!

وفي حين يندد الشارع بالحاكم ​رياض سلامة​ وبسياساته المتبعة، جاء كلام المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، مدافعا، اذ قال أن سلامة هو "الوحيد الذي يعمل على معالجة الازمة القائمة، في وقت لا يقوم السياسيون بأي شيء".

هل أن الحاكم يقوم بالفعل بإجراءات فعالة تهدف الى لجم الأزمة والحد من تأثيراتها؟ كيف يمكن معاقبة البنوك بعيدا عن "فشّ الخلق" والتكسير؟ هل أن خطوة اللجوء الى "​صندوق النقد الدولي​"، آتية لا محال؟

هذه الأسئلة وغيرها، أجاب عليها الخبير الاقتصادي، د. كامل وزنه، في مقابلة خاصة مع موقع "الاقتصاد":

- يحمّل الشارع رياض سلامة المسؤولية الكاملة لما آلت اليه الأمور في لبنان، في حين تدافع عنه بعض الجهات الدولية. هل أن سياسات المركزي وحدها التي أوصلتنا الى هنا؟ وهل أن الحاكم يقول فعلا بتدابير من شأنها الحد من الأزمة الحاصلة ومن مفاعليها على الشعب والاقتصاد؟

يعيش لبنان اليوم في ظل أزمة مالية، تعتبر من أصعب المراحل التي مرّ بها ​الاقتصاد اللبناني​. كما أن المودعين يعيشون في حالة غير مسبوقة من الخوف والتوتر والقلق.

وبالتأكيد، فإن الطريقة التي تعاطت بها ​الدولة اللبنانية​ مع مختلف المواضيع، وخاصة ​السياسة النقدية​ المتبعة، أوصلت البلد الى حافة الانهيار، كما أوصلت المصارف الى مرحلة ما يسمى بالعجز عن تلبية حاجات المواطنين والمودعين؛ فالمنظومة المالية التي اتبعتها الدولة اللبنانية وحاكمية ​مصرف لبنان​، عبر إعطاء الفوائد المرتفعة، وتأمين الأموال لسندات الخزينة، في ظل الهريان الموجود في الدولة، إضافة طبعا الى السرقة والنهب في مؤسساتها، هي العوامل التي أوصلت البلد الى هذه الحالة.

وبعد أن طمأن الحاكم، الشارع اللبناني، لفترات طويلة، سحب بطريقة مفاجئة هذه الطمأنة، ووضع لبنان - كما وصفه - أمام الانهيار، ما أفقد عدد كبير من اللبنانيين، الثقة بالنظام المصرفي، الذي يعتبر اليوم، بالفعل، بحكم الميت. بحيث أن ما كان يعول عليه الاقتصاد اللبناني والمصارف، من تحويلات من الاغتراب، قد تتوقف، الا للحاجات الضرورية، وأي إيداعات في المصارف، لن تأتي الى الا مكرهة؛ وهذا هو الفشل الأكبر للسياسات النقدية.

ومن هنا، فإن الحاكم يتحمل مسؤولية كبيرة، لأنه وضع أموال الناس في سندات خزينة في الدولة، التي تحمل مخاطر كبيرة، ولم يبلغ – لا هو ولا المصارف – المودعين عن هذه المخاطر، كما أوصل البنوك، ضمن المعايير الدولية – اذا تم تطبيقها – الى حالة الإفلاس غير المعلنة.

- سبق أن عبّرت في مقابلة سابقة عن رفضك للترويج للـ"haircut"، في حين عادت هذه الفكرة الى الظهور مجددا في الأيام الماضية. هل باتت هذه الخطوة ضرورية اليوم على ​الديون​، من أجل الخروج من الدوامة التي علقنا في داخلها؟

لقد تحدثت عن رفض أي "haircut" لرأس المال، لكنني أشجع حتما، الـ"haircut" على الفوائد، وعلى إعادة جدولة الديون. كما أنني ضد إخراج أي أموال حالية من الخزينة، لدفع سندات اليوروبوند.

فالبعض يقول أن لبنان لن يتخلف عن دفع استحقاقاته الخارجية، ولكنه للأسف، تخلف عن دفع استحقاقاته الداخلية، وخاصة للمواطنين اللبنانيين، الذين لديهم التزامات محلية وخارجية، وبالتالي يعانون من مشاكل عدة، لأن المصارف تحتجز أموالهم، ولا تلبي جميع احتياجاتهم؛ فالأموال تعطى بنسب ضئيلة جدا، وبما لا يتكيف مع الالتزامات المختلفة.

- في حال تم تأجيل عملية مبادلة السندات، الى أي مدى سوف تتأذى سمعة لبنان على الصعيد الدولي؟

لبنان ليس لديه اليوم، أي سمعة دولية؛ ففي السابق، كنا نهتم لهذه السمعة، بسبب اعتمادنا على ​التحويلات​ من الخارج، وعلى طرح السندات في الخارج. ولكن، للأسف، تم تدمير سمعتنا، من خلال ما قامت به المصارف وحاكمية مصرف لبنان، وبسبب ​الوضع الاقتصادي​ والمديونية المرتفعة.

- نعيش اليوم في ظل معضلة كبيرة تتمثل العلاقة بين البنوك والمودعين؛ فالنسبة الأكبر من الشعب اللبناني، فقدت ثقتها بالقطاع المصرفي، بسبب حجز الأموال، والإذلال الذي تتعرض له في محاولتها للحصول على "جنى العمر". وقد عمد البعض الى "الانتقام" من خلال التكسير والتهديد. لكن هذا الشعب نفسه، لا يريد حتما أن تفلس هذه المصارف، لأن أمواله محبوسة لديها. كيف يمكن معاقبة المصارف على ما تمارسه بحق المودعين، دون أن تضيع أموال الناس أو تتهدد؟

أدين أي عمل عنفي في أي مكان في لبنان؛ من قطع الطرقات، أو الاعتداء على القوى الأمنية، أو الاعتداء على المصارف، أو إحراق الممتلكات العامة أو الخاصة.

فنحن نريد أن نبني بلدا، ونحافظ على ما تبقى منه، ومن هنا، نشجع كل الأعمال السلمية، التي تساهم في دفع الطبقة الحاكمة الى تحمل مسوؤلياتها. لكن ​العنف​ الذي حصل منذ بداية الحراك، والى حد اليوم، وصلت تكلفته على الاقتصاد اللبناني، الى مليارات الدولارات، كما أدى الى شلل قطاعات أساسية، بما فيها الخدمات و​السياحة​.

فالهدف من الحراك، هو وضع الأمور على السكة الصحيحة، وليس أخذ البلد الى المجهول والانهيار، أكثر فأكثر.

وخلال الشهرين الأخيرين، كنا نعتمد على التحويلات والسياحة من اللبنانيين والأجانب، ولكن ضُرِب ​القطاع السياحي​، وتم شلّ هذا الشريان الحيوي الذي يؤمن وظائف للكثير من اللبنانيين.

لذلك، أتمنى من المتظاهرين أن يتابعوا بمطالبتهم المحقة، وأن يبتعدوا عن العنف، لأن هذه الممارسات قد تجر البلد الى مسار، نتخوف أن يؤدي الى سقوط الدماء في الشارع.

أما بالنسبة الى معاقبة المصارف، فيجب على ​مجلس النواب​ أن يبدأ بعملية واضحة، لإعادة كتابة قوانين جديدة، حول كيفية تعامل المصارف مع المودعين. فقد أثبتت تجربة المصارف اليوم، أنها في مكان معين، تخطت دورها كمصرف، وأصبحت مؤسسة تعمل باستثمارات عالية المخاطر؛ اذ أنها وضعت اللبنانيين في استثمارات ذات مخاطر مرتفعة جدا – أي سندات الخزينة اللبنانية – دون الإفصاح عن حجم هذه المخاطر. وطمعا طمعا بالربح السريع الذي حققته من هندسات وأرباح وهمية، وضعت المصارف، إيداعات الناس، في مخاض صعب. وللأسف، قد يفقد المودعون، جزء من ودائعهم في المستقبل.

- كثرت الأحاديث التي تؤكد أن كل الطرق ستؤدي الى "صندوق النقد الدولي"، سواء عبر تسهيلات التمويل الموسعة، أو من خلال تقديم المساعدة الفنية. هل ما زال بإمكان لبنان تفادي الوصول الى هذه المرحلة؟ وفي حال حصولها، ماذا سيكون مصير اللبنانيين؟

نحن في لبنان، لدينا القدرة على إيجاد المخارج الاقتصادية والمالية، لكن ليس عبر هذه الطبقة السياسية التي تحكم لبنان.

ومنذ ثلاث سنوات، أدعو الى تشكيل لجنة تقنية، تعمل عبر رئاسة الجمهورية، لإدارة الاقتصاد اللبناني، وإيجاد المخارج للأزمات. ولكن حتى الآن، تم الإعلان في أماكن عدة، عن تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية على مستوى الوطن، لكن هذه الإعلانات، لم تستكمل بإجراءات عملية.

للأسف، فإن "الصبينة" في طريقة التعاطي السياسي، لا ترتقي الى هم المواطن ووجعه وخوفه؛ اذ فقد جزء كبير من العاملين في ​القطاع الخاص​، نصف رواتبهم، وهم على حافة خسارة الجزء الآخر. كما أن ​القطاع العام​ تضرر أيضا بشكل كبير، بعد أن فقدت ​الليرة اللبنانية​ نصف قيمتها، وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، سيكون هذا القطاع مهدد بلقمة عيشه وبمصيره. واذا لم يتم تأمين الإيرادات والرواتب للقطاع العام – خاصة أن 60% منه، هو من القوى الأمنية – نتخوف من تحول هذا القطاع بأكمله الى حراك؛ وهذا الأمر غير مستبعد على الإطلاق!