مع اقتراب استحقاق السندات الاجنبية بقيمة 1.2 مليار ​دولار في شهر أذار المقبل​ ، وبسبب عجز الدولة عن السداد ، اقترح ​مصرف لبنان​ على الحملة المحليين لهذه السندات ، اي ​المصارف​ اللبنانية ، ​مبادلة​ ما بحوزتهم منها بسندات ذات أجل أطول.

يأتي ذلك بعد سدد ​مصرف لبنان المركزي​ العام الماضي 1.6 مليار دولار عند استحقاق السندات بالعملة الأجنبية ، ما استنزف المزيد من ​احتياطات​ المصرف بالعملات بالدولار ، وبات من الضروري ايجاد حل موقت يؤجل المزيد من النزيف ، ويعطي الدولة حيزا للتنفس . ولكن هذه الخطوة لتنفيذها تتطلب وجود حكومة تقترح مشروع قانون يقره ​مجلس النواب​ لاصدار سندات جديدة.

وما كان خبرا مسربا صار رسميا ومعلنا اذ اكده رئيس جميعة المصارف لبنان سليم صفير في تصريح لوكالة "​رويترز​" مرجحا إعادة ‏هيكلة الدين السيادي للبنان بطريقة لا تضر بالاقتصاد ولا بالمودعين، وموضحاً أنه سيجري الدفع للدائنين الأجانب‎.‎

‎ ‎

واكد صفير موافقة ​المصارف اللبنانية​ على عملية التبادل واصفاً مثل تلك المقايضات بأنها "ممارسة معتادة‎".‎

ورجّح "إعادة هيكلة الدين بطريقة أو بأخرى لكن دون التأثير على ودائع الناس وهم يعملون الآن على التأكد من ‏ذلك"، مشيراً الى أن هذا "سيوفر مزيداً من الأوكسجين لتنشيط اقتصادنا‎".‎

‎ ‎

ورداً على سؤال عن الطريقة التي ينبغي أن تجري بها إعادة الهيكلة، قال إنها ستكون مسؤولية الحكومة الجديدة. ‏لكن الفكرة العامة هي "خفض الفوائد وتمديد آجال الاستحقاق‎".‎

في المقابل شكك مسؤولون وخبراء في جدوى هكذا عملية على المديين المتوسط والبعيد ، فالتأجيل مفيد ولكنه لايعالج جذر المشكلة ، بل يرتب على الدولة اعباء اضافية مع السندات الجديدة المؤجلة وفوائدها ، والحديث عن اعادة هيكلة الدين ، كما هو متداول بين المصارف ، ليس دقيقا بالمعنى العلمي ، وهو بالاحرى اعادة جدولة ، اما اعادة الهيكلة المعروفة عالميا فهي عملية متكاملة تتضمن ايضا شطب بعض ​الديون​ .

هذا الراي عبر عنه صراحة وزير الدولة لشؤون الاستثمار والتكنولوجيا عادل أفيوني قائلا: "‏على المصارف تحمل المسؤولية ومواجهة الازمة والناس ​بصراحة​ ،لان وضع ​القطاع المصرفي​ صعب بسبب افراطه في ​اقراض​ الدولة ومصرف لبنان، وهذه الديون تدهورت قيمتها، وشراء الوقت ليس حلا. انما الحل يكون بخطة شفافة علمية لاستعادة سيولتها وملاءتها ودورها ، وإلا ستتحول الى بنوك zombie عاجزة عن تمويل الاقتصاد وخدمة المواطن لسنوات".

إعادة هيكلة الدين، أو إعادة جدولة الدين، كان طالب بها وزير المال ​علي حسن خليل​ قبل عام بالتمام والكمال في كانون الثاني 2019، وأدّت حينها إلى نشوب حملة منددة تولتها القوى السياسية والمصارف التي رفضت هذه الفكرة ، وعقد يومها اجتماع سياسي مالي في قصر بعبدا صدر بعده بيان تلاه الوزير خليل باسم المجتمعين، يعبّر عن التزام لبنان بديونه في آجالها . وكان الكلام عن إعادة هيكلة الدين مرفوضاً بشكل خاص ومطلق من المصارف وحملة السندات الأجانب وكل شركائهم في لبنان.

منذ ذلك الوقت دأبت المؤسسات المالية الأجنبية على التذكير ان اعادة هيكلة الدين حتميّة فاصدرت "​كابيتال ايكونوميكس​" على سبيل المثال تقريراً بعنوان “لماذا لبنان يتجه نحو إعادة هيكلة ديونه”، تشير فيه إلى أن إعادة الهيكلة وانهيار سعر صرف الليرة يأتيان بشكل فوضوي قد يؤدي إلى محو رساميل المصارف، والمحت إلى ضرورة إخضاع لبنان لبرنامج مع ​صندوق النقد الدولي​ للحدّ من موجة هروب ​رؤوس الأموال​.

وتبعت ذلك تقارير من مؤسسات مختلفة فاعتبرت "​بلومبيرغ​" انه على الرغم من نجاح لبنان في تسديد استحقاق سندات اليوروبوند المقدّرة بـ1.5 مليار دولار في تشرين الثاني الماضي ، تتجه الأنظار اليوم إلى السلطات اللبنانية التي يتعين عليها تسديد التزامات بقيمة 1.2 مليار دولار في 9 آذار المقبل. وفي تقرير لها، قالت الوكالة الأميركية إنّ اتجاه لبنان إلى "إعادة هيكلة ديونه المقدرة بـ87 مليار دولار" هو مسألة وقت بالنسبة إلى عدد كبير من حاملي السندات.

كذلك أصدر "​بنك أوف أميركا​ ــ ​ميريل لينش​" في كانون الاول الماضي دراسة عن قيمة سداد ديون لبنان انطلاقاً من ارتفاع احتمالات الإفلاس أو لجوء الدولة إلى عملية إعادة هيكلة للدين العام، بعدما ارتفعت المخاطر الناتجة عن تطورات الأوضاع السياسية واستمرار نزف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بوتيرة كبيرة بلغت 3.6 مليارات دولار سنوياً، وتضخّم في قيمة الليرة بما بين 50% و66%، وخروج ​الدين العام​ عن السيطرة.

"ميريل لينش" رسمت فرضيات لعملية إعادة الهيكلة، واحدة تكون منظمة من خلال اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي على برنامج واضح ومحدّد، وثانية تكون فوضوية، لكنها تعتقد أنه "في ظل الوضع القائم، أن برنامج صندوق النقد الدولي يصبح ضرورياً".

هذه التقارير ان دلت على شيء فانها تدل على نفاذ صبر الأسواق ، لان عملية تعافي الأسواق صعبة، وتتطلب بالدرجة الاولى معرفة المستثمرين الجهة التي ستتحكم بشؤون لبنان المالية ، علماً أنّ مخاطر الديون اللبنانية لمدة 5 سنوات ارتفعت عالميا ما يزيد عن 2500 نقطة وهي الأعلى عالمياً . وفي ظل الفراغ الحكومي فان الوضع يتدهور اكثر.

وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال كميل ابو سليمان كان سبق الجميع واكد قبل اشهر أنّه ينبغي للحكومة الجديدة الإعلان عن إعادة هيكلة الدين قبل حلول موعد استحقاق سندات اليوروبوند في آذار المقبل، على أن تقرن هذا الإعلان ببرنامج إصلاحات يُفضّل أن يكون مدعوماً من صندوق النقد الدولي.، مشيرا الى اننا لا نريد أن ينتهي بنا المطاف مثل ​فنزويلا​، حيث أعطيت الأولوية للمقرضين على حساب تأمين الاحتياجات الأساسية.

واكد أنّ أي تغيير يطال سندات اليوروبوند المقدرة كلفتها بـ28 مليار دولار يستدعي الحصول على موافقة 75% من حاملي السندات، على أن يتم التصويت على كل سلسلة تباعاً.

لا شك ان الشرط الاساس لوقف الانحدار المالي الشديد ، ومن أجل السيطرة على الدين العام، هو تشكيل حكومة تتخذ القرارات ، لان مصرف لبنان لا يمتلك الصلاحيات الكافية لمديد آجال الديون ، او لاعادة هيكلة الدين . والحكومة وحدها القادرة على وضع سياسة مالية جديدة تعمل وبالحوار مع المصارف وكبار المودعين ، على اعادة جدولة الدين ، وليس فقط تمديد آجاله لسنة او سنتين ، وانما للبحث في امكانية شطب الجزء الهالك منه ، وهو الجزء التي باتت الدولة عاجزة عن تسديده، الآن وفي اي وقت آخر .

يقول أحد الخبراء الاقتصاديين: بات هناك إقرار واسع بأنّ الدين العام في لبنان بلغ مستويات لم يعد ممكنا الاستمرار بخدمتها، وبالتالي يوجد خطر جدي أن تبلغ الدولة مرحلة العجز عن السداد في حال استمر الوضع على ما هو عليه في السنوات الثلاث المقبلة. وهذا الخطر لا يهدد المجتمع فحسب، في ظل التداعيات المحتملة على الصعد المختلفة، بل يهدد أيضا الدائنين أنفسهم الذين سيضطرون عاجلا أم آجلا إلى التعامل مع مدين "مفلس" اي ​الدولة اللبنانية​ . ففي هذه الحالة، لا يعود هناك أي جدوى من المطالبة بسداد أصل الدين والفوائد، وفي النهاية سيعملون على شطب الديون الهالكة من سجلاتهم، وهذا ما يحصل بصورة معتادة بين المصارف (الدائنة) وزبائنها (المدينين).

ويعطي مثالا على ذلك فيقول : كانت ديون الشركات والأسر الهالكة أو المهددة بالهلاك (المصنفة للمتابعة والتسوية) لدى المصارف اللبنانية تقارب 12 مليار دولار في عام 2017، أو 20% تقريباً من مجمل ديون هذه المصارف للقطاع الخاص في لبنان، وهي نسبة مرتفعة جدا، وقد عملت المصارف على نقل أكثر من مليار و100 مليون دولار إلى حسابات خارج ميزانياتها، كما عملت على تملك أصول استيفاء لديون بقيمة مليار و300 مليون دولار، واحتفظت بنحو 3 مليارات و600 مليون دولار من الديون غير المنتجة لأي فوائد، فضلا عن نحو 5 مليارات و800 مليون دولار موضوعة في خانة الشكوك بتحصيلها.

في الجهة المقابلة يحذر خبراء عن اي محاولة لشطب بعض الديون لانها ستُشطب من رأسمال المصارف وهذا يعني أن حجم القطاع المصرفي سينخفض بنفس القيمة. وبالتالي، فإن قدرة المصارف على التسليف ستنخفض حكما ، اي ان القطاع المصرفي سيصبح مُلزما تطبيق سياسة إنكماش في ال​قروض​ خصوصاً للقطاع الخاص ولكن أيضا للدولة اللبنانية ما يؤدي حكما إلى تراجع النمو الإقتصادي الذي أساسه الإستثمار والإستهلاك وسيضع الدولة في وضع صعب من ناحية قدرتها على التمول من القطاع المصرفي.

ان الدولة عالقة بين خيارين صعبين : فاما شطب قسم كبير من الدين ، سواء بشكل قسري او بالتراضي ، وخصوصا السندات بالليرة ، من اجل تخفيض جذري لكلفة خدمة الدين العام ، وفي نفس الوقت العمل على تأمين مصادر اخرى للنمو ، مثل الاصلاحات التي تزيد موارد الدولة بشكل كبير (وهنا يحكى عن خمسة مليارات دولار سنويا على الاقل ) و​المساعدات​ الخارجية(مثل قروض سيدر وغيره ) ، واما الرضوخ للواقع الحالي وعدم اتخاذ اي اجراء لتجد نفسها في نهاية المطاف مفلسة وامام املاءات المؤسسات الدولية ، التي لا تزال حتى اللحظة في موقع الناصح والمرشد ، دون اتخاذ قرارات زجرية .. ولكن الوصول لذلك لن يطول كثيرا .