لم يكن ينقص المواطن اللبناني الا استصدار قوانين واجراءات تشرعن التدابير المتخذة في ​المصارف​ لتقنين السحوبات المسموحة للمودعين ، بداية للحسابات ب​الدولار​ و​العملات الاجنبية​ الاخرى، ومن ثم للودائع بالليرة .

هذا الامر يمكن ان يحصل اذا استجابت الحكومة عبر وزارة المالية لطلب حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة بالامس ومنحته الصلاحية لاتخاذ اجراءات تقونن التدابير الاستثنائية والموقتة للمصارف .

النتيجة الحتمية لهذه الصلاحية اذا اعطيت ان اي مصرف سيمتنع عن تلبية طلبات الزبائن ايا كانت ، ومهما بلغ حجمها ، فهل المقصود حماية الودائع ، ام حماية المصارف من الافلاس ؟

الوقائع تشير الى ان الهدف ليس حماية الودائع ، فاللبنانيون سحبوا من المصارف كل ما امكنهم من مبالغ ووضعوها في بيوتهم ، ويقدر الخبراء الاموال الموجودة في ​المنازل​ ما بين مليارين واربعة مليارات دولار . وما تبقى في البنوك اكثر بكثير . ولان اللبنانيين فقدوا ثقتهم بالقطاع المصرفي فان مسلسل السحب سيستمر حتى آخر دولار وآخر ليرة ، وهذا يهدد بعض المصارف بالافلاس .. من هنا جاء طلب سلامة لفعل ما يمكن منعا لهذا الافلاس.

سبب آخر متصل لهذا الطلب فبعض القضاء اللبناني وقف في مواجهة المصارف التي تمتنع عن تنفيذ طلبات المودعين ، سحبا او تحويلا للاموال ، وقد اصدرت محاكم عدة في المناطق والمحافظات احكاما قضائية اجبرت البنوك على تلبية هكذا طلبات.

لذا يريد حاكم المركزي حماية المصارف من القانون لان الكل يعلم ان ما تفعله مخالف للقانون ، وللحق الطبيعي للمودع ان يحصل على ماله ، واذا كان لا بد من تنظيم عملية السحب فالقاعدة الاساسية هي حق المودع بالحصول على امواله والاستثناء هو التقنين وليس العكس.

طلب تشريع التقنين ، الذي يبدو انه سيشتد في الايام والاسابيع المقبلة ، سبقته سلسلة مواقف لسلامة في اطلالة تلفزيونية الخميس الماضي (9 كانون الثاني 2020 ) ، حيث اطلق سلسلة مواقف تعرضت للانتقاد مثلها مثل الحلقة التفزيونية التي وصفها بعض الاعلام بانها معلبة ، وهادفة للترويج لسياسات قاسية سيلجأ اليها البنك المركزي .

الحق يقال ان سلامة اطلق ايجابيات عدة في تلك المقابلة ولكن ايضا مجموعة من السلبيات . نعرضها هنا بموضوعية .

في الايجابيات اكد سلامة أن "لا إفلاس لأي مصرف ونحن نلبي ​السيولة​ المطلوبة للمصارف بالعملتين، وإشترطنا عليها عدم تحويل الدولار الى الخارج " . وهذا امر جيد شرط التزام المصارف بمنع التحويل بالدولار خصوصا الى الخارج وتطبيقه على الجميع من دون استثناءات للسياسين او النافذين. وما يطمئن ما يقوله سلامة انه قادر على تلبية الحاجة الى السيولة لذا لن يكون هناك افلاسات .

شدد سلامة على أنه "لا يوجد HairCut في لبنان ولا صلاحية للمصرف المركزي للقيام فهذا الموضوع بحاجة لقانون"، مشيرا الى أنه "عند الاطلاع على ميزانيات المصارف يتبين لدينا وجود ودائع ولا خوف في هذا الموضوع خاصة على الودائع بالدولار".

لذا ينبغي على سلامة سحب طلبه الجديد بشرعنة التقنين لانه سيؤدي الى نفس نتائج الـ Haircut ، وخصوصا ان المصارف بدأت منذ مدة باقتراح اعطاء المودع ما يملكه بالدولار ولكن ب​الليرة اللبنانية​ وفقا للسعر الرسمي اي 1515 ليرة للدولار ، في حين ان العملة الخضراء بلغت في الايام الاخيرة الـ2500 ليرة .

من الايجابيات ايضا الطلب من المصارف ممارسة المرونة المناسبة لموضوع القروض التي يعجز المواطن عن تسديدها وان لجنة الرقابة لن تصنّف من يتعثّر لحين عودة الامور الى طبيعتها". هذا الاجراء ينبغي ان يصبح الزاميا ، فكما ان المصارف تعجز عن تلبية طلبات المودعين ، فان المقترضين عاجزون عن تسديد قروضهم .

قال سلامة : أن "تثبيت سعر صرف الليرة مكلف. نعم لكن هذا هو قرار الدولة وهو موجود في برامج الحكومات نحن مقتنعون في مصرف لبنان بتثبيت سعر صرف الليرة". ولكنه يضيف بعد ذلك : "مصرف لبنان لا يحمل ​دولارات​ ويذهب الى الصيارفة لاعطائهم دولار"، مؤكدا "أننا نجهل من الذي يستفيد من الدولار لدى الصرافين. ولا حسابات او اموال للصرافين في ​ ​المصارف اللبنانية​.

الواقع ان سياسة تثبيت سعر الصرف كان في الماضي خطأ لانه كلف الخزينة مليارات الدولارات ،واوهم اللبنانيين من خلال اخفاء القمية الحقيقية لليرة ، ان الاقتصاد بخير ، ولكن التثبيت اليوم مطلوب بشدة للحفاظ على قيمة ودائع اللبنانيين وعلى القيمة الشرائية للرواتب والاجور . ولكن هل يتدخل المركزي اليوم لتثبيت سعر الصرف . الجواب هو كلا ، لان مصرف لبنان لم يعد يملك الرصيد الكافي لاستنزافه ، وقد حصل اثناء مناقشة ​موازنة​ العام 2019 ان طلبت وزارة المالية من المصارف ​الاكتتاب​ بسندات الخزينة بفائدة 1 في المئة فرفضت ، ولما ابدى المركزي استعداده لذلك منعه ​البنك الدولي​ بالتحذير من خطر نفاذ احتياطاته ، وعلى ذمة البنك الدولي فان هذه الاحتياطات لا تزيد عن عشرة مليارات دولار ؟؟

هل يتدخل مصرف لبنان اليوم لحماية الليرة . لا احد يعرف . ولكن ما يعرفه الجميع ان الصرافين هم من يتحكم ب​سعر الدولار​ ، ويقف المركزي عاجزا او لا مباليا .

في السلبيات يؤكد سلامة أن "سعر صرف الدولار​ على الـ2400 هو فقط لدى الصيارفة، وهم يشكلون اقل من 10 في المئة من السوق المالي ، والمصارف تحترم وتحول على الـ1515".

وهذا ما تناقضه الوقائع اذ ان المصارف تمتنع عن التحويل نهائيا ، وهي بالتالي لا تحترم السعر الرسمي . ويعرف كل مواطن انه اذا احتاج لمبلغ ما بالدولار فلا يجد سوى الصرافين للحصول عليه ، وبالتالي فان النسب التي تحدث عنا سلامة تصبح معكوسة ، اي ان الصرافين يشكلون 90 في المئة من السوق المالي ، والمصارف 10 في المئة فقط ، على احسن تقدير.

رغم تاكيد سلامة ان مصرف لبنان ​أمن​ الدولارات المطلوبة لإستيراد ​المحروقات​ و​القمح​ و​الادوية​ ، الا ان شكاوى اصحاب هذه القطاعات لا تتوقف بسبب عدم كفاية ما يؤمنه المصرف المركزي.

أما طلب سلامة من المصارف ان تزيد من رأسمالها والا توزّع الارباح لكي تحتفظ بالسيولة اللازمة لتلبية طلبات المودعين ، فمن المؤكد انه لم يتم تلبيته، ويبدو ان المركزي فقد سيطرته على ادارة الشأن المالي ، ولم يعد قادرا على الزام المصارف بأي شيء.

في المقابل اعلن سلامة عن الامر الاخطر في هذه المرحلة بقوله ان المصارف غير ملزمة قانونيا بالدفع للمودعين بالدولار بل بالليرة وهنا بيت القصيد . وبعد تصريحه الشهير في 3 ​تشرين الاول​ 2019 وقوله آنذاك انه لطالما كان هناك سعرين للدولار في لبنان ، واحد للبنوك والثاني للصيارفة ، والذي شرعن تفلت الصرافين . ها هو اليوم يبيح للبنوك حجز ما تبقى من دولارات واعطاء الزبائن بدلا منها الليرة اللبنانية ، ودائما حسب السعر الرسمي الوهمي.

في هذه الحال ستحتاج المصارف الى كميات هائلة من السيولة اللبنانية ... وهنا نطرح السؤال الاهم :هل تحسب مصرف لبنان لذلك بطلب ​طباعة​ اطنان من العملة الورقية الجديدة .. أم ان هذه العملية مبرة برمتها ؟

بالعودة الى طلب سلامة من وزراة المالية منحه صلاحية قوننة تدابير المصارف ، فان الخبراء يؤكدون ان هكذا امر غير ممكن الآن ، لانه يحتاج الى قانون من المجلس النيابي ، او على الاقل على قرار من مجلس وزراء غير متوفر اليوم لان الحكومة مستقيلة .

في كل الاحوال فان هذا الاجراء خطير للغاية لان نتيجته الحتمية المزيد من افقار المواطنين بالقضاء على مدخراتهم. ففئة المودعين بالليرة افلست لانها خسرت حتى الان اربعين بالمئة من قيمة اموالها ، وقد جاء الدور على المودعين بالدولار والذي سيخسرون النسبة نفسها ، على افتراض سعر الدولار الحقيقي 2500 ليرة ، ولكن التوقعات تشير الى الاسوأ ، هذا اذا مُنحت المصارف صلاحية تقديم هذه الودائع بالليرة .

نحن اليوم في قلب الانهيار ، وللذين حذروا تكرارا من ​المجاعة​ ، نقول ان المجاعة واقعة اليوم ، ليس بسبب فقدان ​المواد الغذائية​ والحاجات الضرورية من الاسواق ، فهذا قد لايحدث ابدا ، ولكن بسبب ارتفاع اسعارها بشكل ​جنوني​ بحيث سيعجز المواطن عن شرائها .

وتجدر الغشارة إلى أن ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ عاد وأوضح لاحقا أنه لم يقصد أن تدفع المصارف للمودعين بالدولار مالهم بالعملة الوطنية، قائلاً: "لم اذكر ان المصارف يمكن أن تحول الودائع بالدولار إلى الليرة اللبنانية".