يبدو النقاش حول استعانة لبنان ب​صندوق النقد الدولي​ و​البنك الدولي​ عقيما في هذه المرحلة في ظل غياب الحكومة التي تتخذ القرارت ، وخصوصا ان هكذا قرار استراتيجي وعلى مستوى عال من الاهمية ، لا يمكن الاستخفاف به ، فهو يرهن لبنان واقتصاده ومالتيه العامة لسنوات طويلة.

القصة بدأت رسميا باتصالين اجراهما قبل اسبوع رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​ بكل من ​رئيس البنك الدولي​ دايفيد مالباس والمديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستينا جيورجيفا، وعرض معهما للمصاعب الاقتصادية والنقدية التي يواجهها لبنان.

وأكد الحريري لكل من مالباس وجيورجيفا التزامه إعداد خطة إنقاذية عاجلة لمعالجة الأزمة، بانتظار تشكيل حكومة جديدة قادرة على تطبيقها، وبحث معهما المساعدة التقنية التي يمكن لكل من البنك وصندوق النقد الدوليين تقديمها في إطار إعداد هذه الخطة.

كما بحث الحريري مع رئيس البنك الدولي إمكانية أن تزيد شركة ​التمويل الدولية​ التابعة للبنك مساهمتها في تمويل ​التجارة الدولية​ للبنان في إطار الجهود التي يبذلها الرئيس الحريري لتفادي أي انقطاع في الحاجات الأساسية المستوردة بفعل الأزمة.

من المعروف ان تدخل صندوق النقد في اي دولة لمدها بالسيولة اللازمة لمنع الانهيار ، كما في حالة لبنان ، لا يتم مجانا ، بل يكون مشروطا دائما سلسلة اجرءات تطاول تخفيض الانفاق الحكومي بشكل جذري ، وتعزيز واردات الدولة ، لكي تستطيع الدولة من الصمود واستخدام القروض الدولية لتحفيز النمو ، وهو الوسيلة الوحيد لانعاش الاقتصاد والمالية العامة ، بغرض تسديد هذه القروض.

وكما هو الحال في لبنان دائما انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض للجوء الى صندوق النقد الدولي ، فالمؤيدون يرون ان لا بديل آخر ، بسبب امتناع الدول المانحة والتي شاركت في مؤتمرات ​باريس​ 1 و 2 و3 ، ومؤتمر سيدر ، عن تقديم اي معونة مالية عاجلة للبنان . أما المعارضون فيؤكدون ان تنفيذ شروط الصناديق الدولية للحصول على تمويل عاجل هو كلحس المبرد لانه يتطلب اجراءات تقشفية كبيرة تصيب الفئات الشعبية باضرار هائلة . كما ان استقدام الاموال قبل سد مزاريب الهدر و​الفساد​ ، وهو مستبعد حاليا ، بسبب تعنت الطبقة السياسية ، من شأنه مفاقمة الم​ديون​ية دون طائل ، ومن دون اي افق للانفراج .

ولا يخلو النقاش من الصبغة السياسية ، فالمعارضون يرفعون شعار السيادة لان تدخل صندوق النقد سيرهن القرار الوطني للوصاية الاجنبية ، وتحديدا الارادة الاميركية ، كما هو حاصل في ​مصر​ والاردن . في حين ان المؤيدين يؤكدون ان هذه الوصاية قائمة فعلا اليوم بسبب دولرة ​الاقتصاد اللبناني​ الذي يتأرجح على وقع ​العقوبات الاميركية​ ، عدا عن وطأة ​الدين الخارجي​ الرمتفع ب​العملات​ الاجنبية .

النقاش في الحقيقة يجب ان يذهب الى مكان آخر . فالاجراءات التي يفرضها صندوق النقد الدولي سبق وان اقترحتها قوى سياسية لبنانية ، وبمحض ارادتها ، خلال مناقشة ​موازنة​ 2019 ، وعادت لتحييها اثناء مناقشة موازنة 2020 . وبكلام آخر فان الوصفة الدولية موجودة اصلا في لبنان ، وقد بدأ العمل ببعض بنودها .

في التقرير الأخير الصادر عن بعثة صندوق النقد الدولي، ورد أن على لبنان تبنّي سلسلة إجراءات إصلاحية لمواجهة الأزمة تؤدي إلى تحقيق فائض أولي في ​الموازنة​ يعادل 4% أو 5% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي، أي ما قيمته بين 2.4 مليار دولار و2.9 مليار دولار "ستكون ضرورية لخفض معدلات الدين إلى الناتج". ويلفت الصندوق إلى أن "بلوغ هذا المستوى من الفائض هو أمر طموح وسيضغط على النمو الاقتصادي على المدى القصير، وهو أمر ضروري للبنان الذي يعاني من مستويات دين مرتفعة ومن هشاشة".

كيف يتم تأمين هذا الفائض في ظل عجز الخزينة؟

ــــ زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 15% أو 20%، ما يؤمن إيرادات إضافية للخزينة تتراوح بين 940 مليون دولار و2.1 مليار دولار.

ــــ إلغاء معظم الإعفاءات من الضريبة على القيمة المضافة والممنوحة لعدد كبير من السلع الأساسية والغذائية. هذا الأمر يوفّر إيرادات إضافية تصل قيمتها إلى 700 مليون دولار.

ــــ فرض ضريبة على ​البنزين​ بقيمة 5000 ليرة على كل صفيحة، لتأمين إيرادات بقيمة 470 مليون دولار.

ــــ إلغاء دعم ​الكهرباء​، أي زيادة تعرفة الكهرباء لتصبح متلائمة مع قيمة النفقات التي تتكبدها ​مؤسسة كهرباء لبنان​ ​لإنتاج الطاقة​ وتوزيعها وجبايتها، ما سيوفّر على الخزينة مبلغ 1.58 مليار دولار.

ــــ إعادة النظر في هيكلية الرواتب في ​القطاع العام​ وفي نظام التقاعد اللذين يمتصان جزءاً أساسياً من الإيرادات.

ــــ تأمين 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي (ما يوازي 350 مليون دولار) من خلال زيادة كل الإيرادات العائدة على ضريبة الأملاك المبنية بنسبة 50%.

هذه الاجراءات التي سيفرضها صندوق النقد كشرط للحصول على الدعم بدأت الحكومة اللبنانية ،أو حاولت البدء بتنفيذها ، وفشلت ، حتى قبل ان تنال شيئا من هذا الصندوق ، ولنذكر انه خلال مناقشة موازنة 2019 اقترح البعض زيادة نوعية على ضريبة القيمة المضافة ، من دون التطرق الى السلع المعفاة صراحة ، واضافة رسم مقطوع على البنزين ، ورفع تعرفة كهرباء لبنان (الغاء الدعم ) ، واعادة النظر بسلسلة الرتب والرواتب باتجاه خفض رواتب القطاع العام و​معاشات التقاعد​ ، الامر الذي اثار غضب العسكريين المتقاعدين خصوصا ، وموظفي الادارات العامة عموما .

لم ترد هذه الاجراءات في موازنة 2019 التي انجزت متأخرة جدا في نهاية العام ، اي بعد انفاق اعتماداتها ، وسجلت عجزا حوالى 6 في المئة . ولكن وزير المال ​علي حسن خليل​ قال قبل ايام ان ثمة مشكلة في ارقام هذه الموازنة من دون ان يحدد القيمة الحقيقية للعجز التي قد تصل الى نسبة عجز موازنة 2018 اي 11 في المئة.

قبل ذلك قدم الرئيس سعد الحريري ورقة اصلاحية بعد طلب مهلة الـ72 ساعة الشهيرة مع بداية الانتفاضة الشعبية ، قرر فيها ان نسبة عجز موازنة 2020 ستكون اقل من واحد في المئة ، واقترح تخيض موازنات بعض الصناديق ، واذ لم يتطرق الى زيادة الضريبة على القيمة المضافة الا انه اقترح خصخصة بعض القطاعات ( وهي من الشروط الثابتة التي يفرضها صندوق النقد الدولي في اي دولة يتدخل فيها ) ، ولكن استقالته طوت هذه الورقة .

بالنسبة لموازنة2020 فبعد الحديث عن انجازها سريعا رغم ان الحكومة مستقيلة ، بنسبة العجز نفسها (اقل من واحد في المئة )، ، تبخر ذلك مع اعلان لجنة المال والموازنة في مجلس النواب قبل يومين ان ثمة نقصا يبلغ 4 مليارات دولار في ​الواردات​ ، وهذا يعني ان نسبة العجز ستبقى على حالها.

ماذا يعني كل ذلك ، وهل ثمة مخرج غير صندوق النقد الدولي ؟

الحقيقة ان المسؤولين في لبنان يعرفون انه لا مناص من الصناديق الدولية ، وهم اذ فشلوا في تطبيق الاجراءات التقشقية غير الشعبية حتى الآن ، لجأوا الى التحايل على الناس. كيف؟

لم يكن انفلات سعر ​الدولار​ في السوق الحقيقية مصادفة سيئة ، علما انه بدا كذلك للوهلة الاولى ، فقد تزامن مع وصول ​الانكماش الاقتصادي​ الى حدود عالية جدا ، وتزامن كذلك مع وصول ​احتياطات​ ​مصرف لبنان​ من ​العملات الاجنبية​ الى الحد الادنى ، لان كل الهندسات المالية السابقة استنزفت رصيده من هذه العملات وتحولت الى ديون اضافية تمتلكها ​المصارف​ ، بحيث لم يعد قادرا على التدخل في السوق لتثبيت سعر صرف الليرة . وقد فضل مصرف لبنان الاحتفاظ بما لديه لتمويل ​استيراد​ بعض السلع الضرورية مثل ​القمح​ و​الادوية​ و​المحروقات​.

الاعلان عن عجز البنك المركزي عن التدخل جاء على لسان حاكمه رياض سلامة في 3 ​تشرين الاول​ 2019 اذ اقر بوجود سعرين للدولار في السوق ، سعر مصرف لبنان وسعر الصرافين .

بغض النظر عمن اتخذ هذا القرار وعن خلفياته فان فلتان الدولار وتسجيله رقما عاليا جدا بلغ 2400 ليرة ، ثم استقراره منذ اسابيع قليلة على 2000 ليرة يعني امرا واحدا ، انخفاض القمية الشرائية الى النصف للرواتب في القطاعين العام والخاص وودائع المتقاعدين في المصارف لانها كلها بالليرة اللبنانية. واذا لم يعد المركزي الى التدخل لتثبيت السعر فان الدولار سيصل الى 3000 ليرة واكثر وهو السعر الحقيقي في بلد منهار اقتصاديا.

وهكذا تكون معظم شروط صندوق النقد الدولي بما يتعلق بالرواتب ومعاشات التقاعد وضرائب الاستهلاك وتقليص نفقات القطاع العام عموما ، قد تحققت مواربة . وما انفقه البنك المركزي من كلفة تقدر بعشرات مليارات الدولار لتبيت سعر صرف الليرة خلال اكثر من عقدين سيتوقف الآن .

لقد حدث تحرير سعر صرف الدولار في مصر في العام 2017 بناء على طلب صندوق النقد الدولي فارتفع سعره الى 17 جنيها ودخلت مصر في مرحلة ما قبل ​المجاعة​.

اليوم واستباقا لاي اجراء حكومي تحرر سعر صرف الدولار في لبنان وسقطت الليرة كرمى لعيون الصناديق الدولية .. ومن المستبعد جدا عودة الاسعار الى سابق عهدها.

الم يحذرنا كبار مسؤولي الدولة وآخرهم رئيس مجلس لنواب نبيه بري بان المجاعة آتية ؟