ما زال الترقب سيد الموقف، وسط مواصلة الاحتجاجات الشعبية، واستمرار ظهور التعقيدات السياسية في ملف التكليف والتأليف. ولا شك في أن الوضعين الاقتصادي والمالي في البلاد، قد وصلا الى مراحل خطرة، والجميع ينتظر إيجاد الحلول المناسبة للخروج من الأزمة التي تؤثر على المواطنين بشكل مباشر.

فلبنان يعاني، منذ ما قبل 17 تشرين الأول والى حد اليوم، من فقدان ​السيولة​ بالدولار، وارتفاع أسعار الفوائد، وتقييد حسابات المودعين من خلال نوع من الـ"capital control المبطّن"، وتوقف ​القروض المدعومة​ وخاصة ​الإسكان​، وغيرها من الأمور،...

ووسط الإشاعات المنتشرة عبر مختلف ​مواقع التواصل الاجتماعي​، والتهويل المبالغ فيه وغير الواقعي من قبل بعض الجهات، لا بد من تقديم نظرة واقعية حول ما آلت اليه الأمور، وما قد يحصل في المستقبل، استنادا الى مؤشرات وتحليلات منطقية.

ومن هنا، كان لـ"الاقتصاد" مقابلة خاصة مع الخبير الاقتصادي، شربل قرداحي:

- كيف تقيم أداء ​المصارف​ في الفترة الأخيرة؟ هل سيؤثر ذلك على سمعتها وثقة الناس فيها في المستقبل؟

أعتقد أن أداء المصارف كان مقبولا، خاصة بعد تعرض البلاد لمجموعة من الأحداث والمشاكل الاقتصادية، الاجتماعية والمعيشية. فخلال هذه الفترة الصعبة، استمرت المصارف في تأمين الحد الأدنى من احتياجات الناس والشركات، وتمكنت من تأمين الرواتب والأجور للقطاعين العام والخاص، كما عمدت الى تسهيل بعض النشاطات التجارية والاقتصادية بين المؤسسات.

أما بالنسبة الى تأثير هذه المرحلة على سمعة المصارف اللبنانية في المستقبل، فإن ما يجري حاليا، يؤثر على البلد بالكامل، وأعتقد أن الناس سينسون ما حصل، في وقت لاحق؛ فصحيح أن المصارف تشددت ببعض الإجراءات المتعلقة بتأمين السيولة وغيرها من الأمور، ولكن عند عودة الانتظام الى الحياة العامة، ستعود الأمور حتما الى الهدوء، وبعد فترة معينة، سيعمد الناس تدريجيا الى التداول مع المصارف بشكل طبيعي واعتيادي، ليتراجع بذلك منسوب انعدام الثقة الذي من الممكن ملاحظته اليوم في بعض الأماكن.

- هل هناك مخاوف من تعثر لبنان في سداد مستحقاته بالعملة الأجنبية بقيمة 1.5 مليار دولار في 28 تشرين الثاني الجاري؟ و ما هي تداعيات التخلف عن الدفع؟

في ما يتعلق باستحقاق اليوروبوندز في نهاية شهر تشرين الثاني، يمكن الاستنتاج من خلال المعلومات المتداولة في الآونة الأخيرة، أن ​مصرف لبنان​ قد اتفق مع وزارة المال على تسديد هذا الاستحقاق عنها، بمعنى أن لبنان لن يتخلف عن سداد استحقاقه.

وفي المقابل، ستصدر وزارة المال شهادات يوروبوندز لصالح المصرف المركزي.

ولكن في حال تخلفنا عن الدفع - ما لن يحصل بحسب تقديري - فهذا الأمر سيؤدي الى تخفيض تصنيف لبنان الائتماني الى "D (Default)"، وسيشكل عقبة أمام استقطاب الاستثمارات الأجنبية في الأوراق اللبنانية. وبالتالي، اذا دفعنا، سنكون قد عمدنا الى حماية أنفسنا في المستقبل، والى تفادي المزيد من التخفيض في التصنيف.

أما في حال لم يدفع لبنان استحقاقه، فالأثر الإيجابي سيكون احتفاظنا بالدولارات، لتمويل تكلفة الاستيراد لحوالي شهر.

وتجدر الاشارة هنا، الى أن الأثر السلبي هو بالتأكيد أكبر من الأثر الإيجابي، مع العلم أن دفع الاستحقاق سوف يسهم في انخفاض احتياطاتنا من العملة الأجنبية من جهة، وفي تراجع قدرتنا على تمويل البضائع المستوردة، من جهة أخرى.

- قال وزير العمل المستقيل، كميل أبو سليمان، أنه "يجب على كل شركة تريد صرف موظفين التقدم بطلب فيه إثباتات بأنها تأثرت بالأزمة"، وأوضح أن "الوزارة تتلقى عدداً كبيراً من الملفات لمؤسسات تتقدم للموافقة على إنهاء عقود موظفيها، لكنها لم توافق على أي منها". برأيك، هل سيؤدي على الإجراء الى الحد من عدد الموظفين المصروفين؟

الإجراء الذي تكلم عنه وزير العمل يسهم، في أماكن محدودة، في حماية بعض الموظفين، وبشكل جزئي. ومن الممكن أن يؤدي الى تأخير قرارات الصرف بنسبة تترواح ما بين 10% و20%.

فبعض الشركات التي تتمتع بالقوة المالية والقدرة على تحمل الوضع الراهن و​دفع الرواتب​ والأجور، قد تفضل اللجوء الى تخفيض عدد موظفيها كخطوة استباقية. في حين أن الشركات الأخرى، التي تفتقد الى السيولة بفعل الأزمة الحاصلة، ولم تعد قادرة على الاستدانة من المصارف، ستكون ملزمة بخطوة صرف الموظفين.

في المجموع العام، لا بد أن يعي الجميع أن لبنان يعيش توترات كبيرة منذ تاريخ 17 تشرين الأول؛ فخزينة الدولة غير قادرة على تحصيل الضرائب والرسوم المتوجبة على المواطنين والشركات، والسيولة انقطعت في النظام البنكي بفعل المخاوف، والحركة التجارية تتجه الى التراجع الحاد، كما أن تقييد ​رؤوس الأموال​ أدى الى خفض الاستيراد، خارج المواد الأساسية، الى حد كبير،...

كل هذه الأمور، وغيرها، ستكون لها انعكاسات واسعة على النشاط الاقتصادي، وبالتالي على وضعية شركات ومؤسسات ​القطاع الخاص​، التي ستجد نفسها ملزمة، للأسف، بتخفيض عدد الموظفين، أو تخفيض عدد ساعات العمل لكي تتمكن من الصمود واجتياز هذه المرحلة الصعبة.

- ما هي متطلبات المرحلة الراهنة لضبط الأسعار وحماية الأمن المعيشي للمواطنين؟ وهل هناك تفاؤل "اقتصادي - معيشي" في الأفق القريب؟

طالما أن سعر الصرف الرسمي للدولار ثابت، ويترواح خارج المصرف المركزي و​المصارف التجارية​، ما بين 1500 و1800 ليرة، سيكون بإمكاننا حماية الأسعار والأمن المعيشي.

لكن العنصر الأول للاستقرار المعيشي والتكافل الاجتماعي، هو الحفاظ قدر الإمكان، على ثبات سعر الصرف ضمن أطر معقولة ومقبولة.

أما العنصر الثاني، فيمكن في قدرة الحكومة الجديدة المنتظرة، على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بدعم الصناعة الوطنية والإنتاج الوطني.

وهذه الخطط متوسطة وطويلة الأمد، لها علاقة بالإصلاحات البنيوية والهيكلية التي تكملنا عنها كثيرا في السابق، والتي لا غنى عنها لكي نتمكن من اجتياز المرحلة الصعبة التي نمر بها.