"هي الثروة الاولى" كلمات كتبها الفيلسوف الاميركي رالف والدو إميرسون عام 1860 . وتُذكرنا مقولة إميرسـون، التي ينقلها عنه ديفيد بلوم أسـتاذ الاقتصاد والصحـة العامـة في جامعـة هارفـارد ، بـأن الصحـة الجيدة هـي ركيـزة البنـاء — بنـاء الصحـة والمجتمع والاقتصاد .

صحيح ان الصرخة التي اطلقها القطاع الصحي والإستشفائي في ​لبنان​ الاسبوع الماضي ليست الاولى ، اذ ان مشكلة المستشفيات والقطاع الطبي مع الهيئات الضامنة الرسمية باتت اشبه بالمرض المزمن الذي يخشى المسؤولون او راسمو السياسة الصحية ايجاد الدواء له ، وان حاولوا ، في بعض المرات القليلة ، فانما يكون وفق التقطير بعد استفحال الحال المرضية ولدرء الجرصة ، ولكن هذه المرة المسألة مختلفة. فتراكم الديون المستحقة للمستشفيات رافقه شح في ​السيولة​ وتحديد سقف لاستعمال ​الدولار​ افضيا الى توقيف الامدادات الحيوية والضرورية من ادوية ولوازم طبية وما من مستجيب !

الطلب على خدمات القطاع الاستشفائي في لبنان في تصاعد مستمر ، تواكبه كلفة غير قليلة عناصرها تقدم مضطرد في التشخيص ، وتطوّر في العلاجات ، وتعدد في الاجهزة المستخدمة . والطلب مرتبط ايضا بارتفاع نسبة الامراض ، والتي بدورها اسبابها متعددة ومتنوعة اهمها ارتفاع معدلات التلوّث ، النظام الغذائي غير السليم ، الضغوطات النفسية وملحقاتها من الاضطرابات في نمط العيش .

كل هذه العوامل تهدد صحة الانسان رغم وجود بعض المؤشرات على تحسن نوعية الحياة.

باختصار ، الصحة لها كلفة . وتمويل الدولة للقطاع لايجاري ابدا هذه الكلفة ومتطلباتها مما يمهد للوقوع في المحظور؛ اي الدولة ليست قادرة تأمين تغطية تكاليف استشفاء وطبابة المواطنين فيما ان الهدر في الانفاق يركن في اماكن ومرافق عدة .

وفق نائب رئيس الحكومة المستقيلة وزير الصحة العامة السابق غسان حاصباني: "التخفيف من الهدر الكبير يمكن أن يساهم في تمويل قيمة دعم صحة اللبنانيين، فعلى سبيل المثال، العجز المالي في تغطية الاستشفاء والدواء سنويا يوازي شهرا واحدا لدعم ​الكهرباء​".

يستحيل اغفال وجود ضغوطات متزايدة وغير محدودة تحيط بموضوع الإنفاق على الصحة، وهي ضغوطات ناجمة عن ضعف تركيبة النظام الصحي والأطر الرقابية وإدارة القطاع عموماً، وتترجم في مستويات إنفاق عالية وهي غير مرتبطة بمستوى النوعية لجهة حجم هذا الإنفاق من ​الناتج المحلي​ الإجمالي.

وفي المقابل، هناك متأخرات مستحقة على ​القطاع العام​ لصالح صناديق الضمان الصحي والمستشفيات الخاصّة حيث ان حصة هذه الاخيرة منها تجاوزت قيمتها 2000 مليار ل.ل. وهي على ازدياد بشكل يومي، وهذا مؤشر إلى وجود اختلال في التوازن ، وبالتالي ، إلى بروز معوقات جدية أمام اضفاء طابع من الاستدامة على النفقات الإجتماعية العامة.

ما جاء في تقرير "التوجهات ​الإستراتيجية​ للنظام الصحي في لبنان" الذي اعده مدير عام وزارة الصحة العامة الدكتور وليد عمار، فان الفعالية ترتبط بدور الدولة ودرجة تدخلها في قطاع الصحة عموما. فرغم المشاركة الحكومية في التمويل، و بدرجة اقل في الانتاج المباشرللخدمات الصحية ، فإن حجم هذا التدخل لا يزال محدوداً، إذا ما قورن بالبلدان الأخرى ،أو إذا ما قورنت انتاجيته ومحصلاته بمثيلها في ​القطاع الخاص​ عند مستوى الانفاق ذاته. وتتناول هذه المسألة أيضاً انعدام الكفاءة الفنية والتقنية في ​قطاع التأمين​ الصحي بسبب عدم وجود مقاييس موحّدة لجهة الإجراءات والتعريفات والعقود والرقابة.

الفاتورة الصحية

تكلفة الفاتورة الصحية في لبنان تقدر بنحو 10% إلى 12 % من الناتج المحلي الإجمالي الذي ينتج فيه القطاع الخاص نحو 95% من الخدمات الصحية حسب تقرير ​البنك الدولي​، وهي ثاني أعلى فاتورة صحية في العالم، بعد ​الولايات المتحدة الأميركية​، وتفوق تكلفة ​الاتحاد الاوروبي​ التي تصل الى 8%. ومع ذلك ، فان الخدمات الصحية تعاني سوءا في التوزيع ونقصا في العدالة، لناحية حصول كل المواطنين على الخدمات الصحية الاساسية . مع العلم أن لبنان يحتل المرتبة 97 عالمياً لناحية السرعة وجودة الخدمات الصحية بحسب دراسة لمنظمة ​الصحة العالمية​.

وفي غضون ذلك ، تصل فاتورة الدواء في لبنان إلى نصف مليار دولار سنوياً كمعدل وسطي بحسب أرقام لجنة الصحة البرلمانية، وتشكل هذه الفاتورة 30-35% من الإنفاق على الصحة و36% من دخل الاسر الاكثر فقراً، هذا من دون احتساب ​الادوية​ المهرّبة التي تشكل 25% من سوق الادوية في لبنان، ومن دون أن ننسى أيضاً أدوية الأمراض المزمنة والسرطانية الباهظة الثمن.

من ناحية اخرى، لقد أكدت الدراسات ما كان متداولاً حول ارتفاع الفاتورة الدوائية بحيث شكلت عام 1998 نسبة 25% من اجمال الإنفاق على الصحة، إلاّ ان هذه النسبة تعدت 30% عام 2005. اتت هذه الزيادة كنتيجة لضبط عناصر الانفاق الأخرى، دون التمكن من خفض الانفاق على الدواء بنفس القدر. وهذا الموضوع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنفاق المباشر من قبل الأسر الذي يعود بمعظمه إلى شراء الدواء من الصيدليات.

و ما يزيد من وطأة زيادة الحاجة إلى الدواء الناجمة عن التحولين الديموغرافي والوبائي هي الكلفة المتزايدة للأدوية المكتشفة حديثاً. ولقد شهد العقد الفائت تسويقاً لأدوية مسعّرة بالآف الدولارات للعلبة الواحدة وهي أدوية لا تؤدي إلى الشفاء بل إلى التعايش مع المرض. مما يوجب استمرار المريض بأخذ الدواء طيلة حياته علماً ان العمر المأمول عند الولادة هو بإزدياد لعدة عوامل منها اكتشاف الدواء بحد ذاته.

ولعل التحدي الأكبر يتمثل بخطر الأوبئة التي تظهر في العالم بتواتر متزايد عاماً بعد عام وتنذر بالتحوّل إلى جائحة عالمية تهدد حياة الملايين من الناس .

لقد اظهرت الدراسات ان مجمل ما تنفقه الدولة من خزينتها عبر ​موازنة​ الوزارة وحصتها من انفاق الضمان وموازنة الصناديق الضامنة الأخرى بما فيها تعاونية موظفي الدولة والطبابات العسكرية، لا تتعدى 20% من اجمالي الانفاق على الصحة. فضلاً عن كون موازنة وزارة الصحة العامة لا تتعدى نسبة 3% من موازنة الحكومة.

تنفق وزارة الصحة العامة 87% من موازنتها على الإستشفاء و​الأدوية​ وتحظى البرامج الوقائية و​الرعاية الصحية​ الأولية بأقل من 5% من ​الموازنة​. يعتبر هذا النوع من توزيع الإعتمادات بإتجاه الإستشفاء والأدوية، مؤشراً واضحاً لعدم الفعاليّة كون المردود الصحي الأكبر للتمويل يؤمن عن طريق الوقاية والرعاية الأولية وليس العلاج.

وبالتالي، لابد من ​زيادة الانفاق​ العام على الصحة لتعزيز صحة المواطنين وتلبية احتياجاتهم وأيضاً لتخفيف العبء الملقى على كاهل الأسر. يبقى ترشيد الانفاق العام هدفاً رئيساً في عملية الاصلاح ولكن بمفهوم حسن استعمال المال العام وتحسين مردوديته وليس على الاطلاق تخفيضه.

إن تمويل القطاع الصحي الذي يحل في المرتبة الثانية من حيث الاهمية بعد انفاق الأسر يأتي من خزينة الدولة وهو مرتبط بالنظام الضرائبي. وبالتالي يفتقر هذا ​التمويل​الى الانصاف ايضاً كون النظام الضرائبي هو غير عادل Regressive بحيث يعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة والتي تشكل عبئاً أكبر على الشرائح الأقل دخلاً.

عالميا ، يتزايد الاعتراف باهمية بالتعاقد مع القطاع الصحي الخاص باعتباره أداة قوية لتسخيرموارده بما يساعد في تحقيق أهداف قطاع الصحة اي التغطية الصحية الشاملة للجميع ورغبة القطاع الصحي الخاص في ضمان تدفقات ​الايرادات​ المستمرة ، من خلال الترتيبات التعاقدية،التي تعطي للقطاع العام بوصفه المتعاقد القدرة على التأثيرفي سلوكيات مقدمي الخدمة من القطاع الخاص، بما في ذلك الامتثال لمعايير الجودة، والاتفاق على شروط تناسب كلا القطاعين لسداد مستحقات مقدمي الخدمة. غيرأن التعاقد لتوفيرالخدمات الصحية عملية معقدة تتطلب قدرات حكومية كبيرة لتوفيرالخدمات الصحية للتخطيط للخدمات موضوع التعاقد والتفاوض بشأنها وتنفيذها ورصدها بصفة مستمرة.

اما في لبنان، فان الامور مختلفة ؛ الدولة عاجزة عن التطبيب وعن التمويل وحتى المضي في أصول التعاقد . من هنا ، فان النهوض بالقطاع الصحي بحاجة الى انتفاضة تضمن حق المواطن بالاستشفاء والطبابة .