قد يبدو مستغربا ان تهب انتفاضة شعبية عارمة ضد الحكومة المنبثقة من انتخابات نيابية انتجت برلمانا جديدا ، لان المعنى الحقيقي للانتخابات هو اختيار الشعب لممثليه ، فكيف حدث ان التفويض الشعبي للطبقة السياسية سقط سريعا قبل ان يجف حبر اوراق الاقتراع.

السؤال يدفع للشك بنزاهة هذه الانتخابات وشفافيتها وديمقراطيتها . ولكن مع تأكيد الهيئات المراقبة والاشراف عليها ، ومنها هيئات دولية ، انه لم تسجل مخالفات جسيمة تؤثر على النتائج ، فان السؤال الاكثر الحاحا هو اين المشكلة اذا ؟

بضمير مرتاح تماما يمكن القول ان انتخاباتنا ليست ديمقراطية لاسباب عدة أهمها ان الطبقة السياسية فصلت قانون الانتخاب على مقاسها ، فدمجت اقضية وجعلتها دائرة انتخابية واحدة ، وابقت أخرى ، وابتدعت الصوت التفضيلي المذهبي المحصور في القضاء ، عندما تكون الدائرة الانتخابية تضم اكثر من قضاء . وهذه مخالفة دستورية فاضحة لان الدستور نص على المساواة بين ال​لبنان​يين وعلى حرية الاقتراع.

هذا نقاش سياسي لا مكان له هنا . لان هذه المقالة تركز على الجانب المالي الذي شوه الانتخابات ، ونسف هدفها الاساسي ، اي تحقيق المساواة للمواطنين عند انتخاب مجلس نيابي يمثلهم ، ولعل تسجيل نسبة مشاركة لم تتعد 45 في المئة هو خير دليل على فشل من فصل القانون الانتخابي ، علما ان ادخال النسبية في نظام الاقتراع يفترض ان يحفز المواطنين على الاقتراع ، لان كل صوت يحتسب.

المال افسد الانتخابات الاخيرة ولم تنفع اجرءات ضبط الانفاق الانتخابي في منع ذلك . وقد ظهر ذلك فعليا في تصريحات ادلى بها رئيس هيئة الاشراف على الانتخابات القاضي نديم عبد الملك اذ قال ان الهيئة تسجل المخالفات والتجاوزات وترفعها الى السلطة السياسية وهي لا تملك صلاحيات ملاحقة المخالفين . والمعروف ان هذه الخروقات تمارسها احزاب تشكل جزءا اساسيا من تلك السلطة. اضف الى ذلك ان المجلس الدستوري الذي يمتلك صلاحية الغاء نيابة احد المخالفين بناء على طعن مقدم من الخاسر ، لاسباب تتعلق بالرشاوى الانتخابية او الانفاق الضخم ، هذا المجلس هو جزء لا يتجزأ ايضا من السلطة السياسية ، لانها وبكل بساطة هي التي عينته (خمسة اعضاء ينتخبهم ​مجلس النواب​ وفق ​المحاصصة​ الطائفية، وخمسة آخرين تعينهم الحكومة وهي صورة مصغرة عن المجلس النيابي).

لذا فان السلطة هي الخصم وهي الحكم.

في الدول الديمقراطية ثمة قوانين كثيرة تحول دون الانفاق الانتخابي حتى قبل الوصول الى محطة الانتخابات ، واهمها قانون الاحزاب . هذا القانون ينظم وجود احزاب تمارس العمل السياسي ، فيحدد طبيعتها واهدافها ، من ناحية مطابقتها للقيم الديمقراطية التي تقوم عليها الدولة ، فلا تمنح التراخيص لاحزاب تحرض على الكراهية ، او الفتن الطائفية ، كما تضبط تمويلها وتراقبه بحيث يمنع منعا باتا الحصول على تمويل اجنبي ، وتكون واردات الحزب من مصادر محلية فقط ، اي اشتراكات المنتسبين او ​التبرعات​ او عائدات مؤسسات تجارية عائدة للحزب .. الخ.

واذا سلمنا جدلا ان كل احزاب لبنان تنطبق عليها معايير الديمقراطية من الناحية السياسية ( وهذا غير صحيح اطلاقا ) فان ما يعنينا انه في لبنان لا يوجد قانون ينظم تمويل الاحزاب . فالقانون الوحيد الموجود عندنا هو قانون الجمعيات العثماني العائد للعام 1909 ، والذي يقول عنه النائب السابق والخبير القانوني ​غسان مخيبر​ انه على تخلفه ادخلت اليه تعديلات كثيرة حدت من حرية منع "العلم والخبر" للجميعات الجديدة. الا انه وفي كل حال لا يقارب مسألة تمويل الاحزاب بتاتا ، وبالتالي لا يتضمن حظر التمويل الخارجي.

الانفاق الانتخابي الضخم والذي يشتري اصوات المقترعين بالجملة يتم قبل الانتخابات وبعدها ، فالاحزاب اللبنانية هي مؤسسات قائمة بذاتها ، لديها جيوش من الموظفين الدائمين ، ويتفاوت العدد بين حزب وآخر ، وثمة مثال صارخ على ذلك هو ​حزب الله​ وهو رب عمل لحشد كبير من المنتسبين يتراوح بين 20 و30 الفا (عسكريين ومدنيين )، ما يعني 360 الف دولار سنويا ، على اقل تقدير ، عدا عن الانفاق على مؤسسات اجتماعية وخصوصا مؤسسة الشهيد التي تصرف رواتب ثابتة لالاف العائلات ، وغير كثير من المؤسسات.

لا احد يستطيع تأكيد ذلك بسبب السرية وغياب القوانين التي تنظم ذلك . وهذا يعني ان هذا الحزب يدخل اي انتخابات ولديه مسبقا اصوات 30 او 40 الف عائلة ، اي 90 الى 100 الف صوت كمعدل عام . فكيف يمكن لاي حزب منافسته ، وخصوصا اذا كانت موازنته السنوية لا تتعدى المئة مليون ليرة.

ذكرنا مثال حزب الله لانه ظاهر للعيان ، وهو لا يخفي ذلك ، كما انه لا يخفي مصدر تمويله الاساسي اي ​ايران​ ، لا بل يفتخر به.

وما قلناه عن حزب الله يمكن ان يقال عن احزاب أخرى ، تتلقى تمويلات خارجية ، يتحدث عنها الاعلام اللبناني دائما ، ومصادره ​دول الخليج​ العربي . وهذه الاحزاب بدورها لديها موظفون ثابتون برواتب جيدة ، وبالتالي فان ولاء عشرات الاف ​العائلات اللبنانية​ مباع سلفا لكل حزب يدفع الرواتب.

في العام الماضي 2018 قدم النائب الراحل روبير غانم اقتراح قانون جديد للاحزاب ، اهم ما فيها انه يفرض على اي حزب يطلب الترخيص عرض النظام المالي الخاص به وتحديد مختلف موارده ومصادر تمويل مصاريفه التشغيلية ومجمل نشاطاته ولائحة بممتلكاته: عقارات،اسهم شركات ،ان هي وجدت مع المستندات الثبوتية لذلك.

لم يذهب الاقتراح الى حظر التمويل الخارجي صراحة ، وهذا ما يجب تداركه ، واضافته كبند رئيسي ، على ان يكون خرق هذا البند كافيا وحده لحل الحزب وحظره ، كما هو الحال في الانظمة الديمقراطية.

من جهة ثانية يجدر التذكير انه في الانتخابات الاخيرة وعلى الرغم من ​الازمة الاقتصادية​ تحدثت الشركات المتخصصة في شؤون العملية الانتخابية عن مئات ملايين الدولارات التي ضخت داخل البلد منذ الأشهر السابقة استعدادا لموعد الانتخابات ، وهي ليست كلها مالا سياسيا مستوردا مصدره عواصم ودول أخرى. بل مصدرها ثروات يمتلكها ​رجال أعمال​ لبنانيون يدفعون بالأموال دفاعا عن وجوه وتيارات سياسية بعينها أو دفاعا عن ترشحها داخل اللوائح التي تدفع بها هذه الأحزاب.عدا عن ترشح عدد لافت من رجال الأعمال اللبنانيين انفسهم لخوض السباق الانتخابي وبالتالي انفاق الاكثير من الاموال. وقد ظهر بشكل واضح أن بعض الأحزاب تلتحق برجال الأعمال في مناطقهم لتمويل لوائحهم، او ترشيحهم هم من أجل كسب أصوات كتلهم الناخبة المكونة عبر تاريخ طويل من الخدمات التي يقدمها رجال الأعمال للناخبين المحتملين في مناطقهم .وهذه المؤسسات تغطي غالبا عجز الدولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية ، فيقدمها هؤلاء مشكورين ، ولكن حين ينخرط المتبرع في العمل السياسي تصبح الاموال التي ينفقها خيريا ، رشاوى انتخابية مقنعة.

اكثر من ذلك فأن رجال الأعمال باتوا من أركان النظام السياسي اللبناني وكثير من الوجوه التي تنتمي إلى قطاع الأعمال في لبنان احتلت مقاعد وزارية أساسية داخل الحكومات المتعاقبة في السنوات الأخيرة، على نحو أشاع نوعا من التقليد داخل التمثيل السياسي للأحزاب في لبنان.

وهنا يجدر فتح ملف الفساد على مصراعيه لتبيان ما اذا كان المال المنهوب من ​الدولة اللبنانية​ لم يذهب الى هذه الفئة من الناس ، اي الذين يلبسون لباسي السياسة والاعمال في آن . فستخدم الاموال المنهوبة سابقا لتمويل حملات انتخابية لاحقا .. وهذا ما يؤكد الضرورة الحيوية والوجودية لاقرار قانون استرداد الاموال المنهوبة ووضعه موضع التنفيذ على ان تتولى تطبيقه هيئة قضائية مستقلة لا يعينها السياسيون.

يحق لكل مواطن لبناني خوض غمار العمل السياسي داخل احزاب او جمعيات ، وكذلك المشاركة في الانتخابات ترشيحا واقتراعا . ولكن رعاية هذه التجارب هي من مسؤولية الدولة ، دولة القانون والمؤسسات ، فلا يقتصر حق الترشح على الاثرياء فقط ، ولا يخسر الفقراء معاركهم الانتخابية بسبب قلة او انعدام القدرة المالية.

يقول خبراء القانون الدستوري إن الترسانة القانونية اللبنانية ما زالت ضعيفة في مجال وضع آليات ومعايير تنظم تمويل الأحزاب كما تمويل الحملات الانتخابية. و يعاني لبنان من تعارض فاضح ما بين مفهوم الدولة والمؤسسات ومفهوم الدويلة والاحزاب والميليشيات، والدولة ليست قادرة على السيطرة على مسائل التمويل الحزبي خصوصا، وعلى الانفاق الانتخابي الهائل عموما، سواء كان مباشرا او مستترا.

لكل ذلك يمكن القول ان انتخابتنا ليست لبنانية وليست ديمقراطية ، وهي تنتج دائما مجالس نيابية لا تعبر حقيقة عن الناس ، وهذا هو واقع المجلس النيابي الحالي ، فلا يجد هؤلاء سوى الشارع للتعبير عن آرائهم وطموحات ومطالبهم.