دخلت البلاد في نفق المجهول، وذلك مع استمرار الانتفاضة الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية لليوم الثاني عشر على التوالي، ومواصلة المشاورات بين أركان السلطة لإيجاد مخرج للأزمة الراهنة.

فالمستقبل المعيشي من جهة، والمالي والاقتصادي من جهة أخرى، باتا غير واضحين، كما أن نتائج هذه المرحلة الحاسمة أصبحت مبهمة حتى إشعار آخر. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان منذ حوالي ثماني سنوات، واستمرار الضغط على الليرة، والشلل الحاصل في حركة الاقتصاد، لا شك في أن لبنان فقد قدرته على تفادي الانهيار، ووصل حتما الى مأزق خطير.

الكارثة المعيشية الموجودة بالأساس، زادت حدتها في الآونة الأخيرة، وستزيد بشكل أكبر غدا وبعد غد وبعد أسبوع وشهر،... خاصة في ظل جشع ​التجار​ الذين اغتنموا فرصة الحراك لجني أرباح إضافية من الناس، من خلال رفع أسعار معظم السلع، وكل ذلك في ظل غياب الرقابة الفعلية على الأرض، و"على عينك يا تاجر!".

ومع الاقتراب من نهاية تشرين الأول، يتساءل جميع اللبنانيين عن رواتبهم، وعن إمكانية تحويلها وقبضها – وخاصة أولئك الذين يتعاملون بالشيكات أو الذين لا يمتلكون البطاقات المصرفية.

فهل سيتقاضى الموظفون رواتبهم؟ هل ستتمكن الشركات من الدفع؟ ماذا عن سعر الصرف؟ ما هي دلالات القرار القاضي بمنع إخراج ​الدولار​ات من لبنان؟ هل ما زال لبنان قابل للإنقاذ؟ ما هي الخطوات المطلوبة؟...

تساؤلات كثيرة يطرحها اللبنانيون، وقد أجاب على معظها المحلل المالي والإقتصادي د. بلال علامة في هذه المقابلة الشاملة مع موقع "الاقتصاد":

- هل سنشهد على المزيد من التدهور في سعر صرف الليرة، في ظل استمرار الوضع القائم؟ وهل من الممكن أن يصل الدولار الى 6000 ليرة كما يهوّل البعض؟

من المستبعد حصول هذا الأمر، وأعتقد أن عملية إقفال ​المصارف​ مدروسة، وتهدف الى عدم السماح، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان، بتحريك الأموال والضغط على وضع الليرة والتسبب بانهيارها.

وعندما تعود المصارف الى فتح أبوابها كالمعتاد، والى ممارسة العمل المصرفي بشكل طبيعي - أي عودة البورصة والتداول الرسمي الى العمل – سنشهد على إجراءات هادفة الى ضبط حركة الأموال وحركة ​التحويلات​، خاصة أن ​مصرف لبنان​ يراقب، بحسب تصريح الحاكم، كل ما يحصل، كما يحاول قدر المستطاع الاستمرار في السيطرة على الوضع.

ففي ظل الظروف القائمة، وصل التداول في السوق السوداء الى أكثر من 1900 ليرة، ولكن بعد حل الأزمة، ستكون الأمور مضبوطة الى حد ما، لأن المصارف لن تفتح أبوابها إلا بعد إيجاد الحل؛ مع العلم أن هذا لا يعني بالطبع أن سعر الليرة لن يشهد على المزيد من التدهور في الفترة الراهنة.

- عندما تفتح المصارف أبوابها، سيتجه اللبنانيون على الفور لسحب ودائعهم. هل من إجراءات يمكن القيام بها من أجل تفادي حصول هذا الأمر؟

أعتقد أن هناك قرارت ستتخذ ما بين السلطة المالية وحاكمية مصرف لبنان، بالتنسيق مع ​جمعية المصارف​، لتطبيق إجرائين سريعين:

الإجراء الأول هو الـ"capital control"، الذي يقضي بمنع أي تحويلات مصرفية ما لم تكن مبررة، وبالتالي تحديد سقف للسحوبات.

أما بالنسبة الى الإجراء الثاني، فأنا أرى أن الأمور تتجه نحو الـ"haircut"، أي ضبط كل الودائع واقتطاع نسبة منها لصالح خزينة الدولة؛ وهذه الخطوة تتسم بالخطورة المطلقة، ولكن أمام الواقع الحالي، والفوضى التي من الممكن أن تحصل في ظل أي إجراء تمارسه السلطة السياسية المتحكمة باللعبة المالية الاقتصادية، تبقى حتما الخطوة المشار اليها، ذات وطأة أخف.

- مع الاقتراب من نهاية شهر تشرين الأول، لا بد من السؤال عن مصير رواتب الموظفين وخاصة في ​القطاع الخاص​؟

لقد دخلنا بالفعل الى عمق الأزمة، قبل الوصول حتى الى نهاية الشهر. فالعديد من الأشخاص الذين يعتمدون على الدخل اليومي، وخاصة في القطاع الخاص، باتوا غير قادرين اليوم، على الصرف بسبب غياب المدخول. وقد ترافق هذا الواقع مع فلتان في الأسعار طال جميع السلع دون استثناء.

اذ نشهد على تطور ملحوظ في حركة ازدياد أسعار السلع والخدمات. وهذا التطور يحصل بوتيرة سريعة جدا وبشكل يومي.

كما بات من المؤكد أن بعض الأشخاص لن يحصلوا على مدخول مع نهاية تشرين الأول، ويمكن توقع هذه النتيجة من خلال المشاهدات والمعلومات الموجودة على الأرض؛ فالعديد من شركات القطاع الخاص ستعطي نصف الراتب، أو ستذهب الى تعليق ​دفع الرواتب​ بانتظار جلاء الصورة.

وحتى الشركات الخاصة التي ستدفع الرواتب على الموعد، ستبلّغ الموظفين بأن هذا الشهر الأخير، بانتظار حل الأزمة.

ومن هنا، أعتقد جازما أننا موجودون اليوم في صلب الأزمة، والأمور متجهة حتما نحو المزيد من التأزم. فالبقاء في هذا الوضع سيفاقم المشكلة بشكل غير طبيعي، وستتحول حالة المواطن من سيء الى أسوأ.

- كيف يمكن إنقاذ لبنان اليوم؟

يجب أن تبادر السلطة فورا الى اتخاذ إجراءات لتقديم الحلول، اذ لا يمكن أن يستمر الوضع بهذا الشكل.

أما الإجراء الفوري، فيكمن في إعطاء تطمينات لحل مشكلة الشارع، قد تأتي على شكل تعديل حكومي، أو ​استقالة الحكومة​، أو تشكيل حكومة بأشخاص غير فاسدين، وذلك من أجل استيعاب أزمة الشارع وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية، عبر الاستعانة بالإجراءات التي ستتخدها السلطة المالية، بالتعاون مع حاكمية مصرف لبنان.

وبالتالي، فإن الإنقاذ هو بالدرجة الأولى سياسي بحت، ولا يمكن اليوم إيجاد أي حل اقتصادي دون أن تتحرك السلطة السياسية التي تمسك بزمام الأمور. فالمواطن غير قادر على التصرف، كما أن الأشخاص الذين يتظاهرون ويطالبون بحقوقهم، ليسوا مسؤولين عن طرح الحلول؛ لأن هذه الأخيرة موجودة بيد من يمتلك الأمر.

- على ماذا يدل قرار النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات بمنع عمليات إخراج الدولارات النقدية من لبنان؟

مقدمة الـ"capital control" تقتضي بمنع إخراج ​العملات​ الأجنبية والصعبة الى خارج لبنان، وهذا الإجراء سيؤثر حتما على حركة اللبنانيين في الخارج، خاصة أن البعض عمد في ظل هذه الأزمة، الى تسيير تجارته عبر الدفع نقدا. وهذا الواقع بمفهوم اقتصاديات الدول، يؤدي لخروج العملات الصعبة من البلاد.

ومن هنا، اضطر النائب العام التمييزي الى اتخاذ قرار سريع بوقف خروج الدولار، بانتظار ما ستؤول اليه الأمور.

- هل يعتبر رفع ​السرية المصرفية​ إجراء كافيا لكشف ​الفساد​ واستعادة ​الأموال المنهوبة​؟

أعتقد أن استعادة الأموال المنهوبة في لبنان هو شعار غير قابل للتطبيق، فنحن نعلم أن أموال مرتكبي الفساد ليست بأسمائهم، وقد تحولت الى أصول من نوع آخر.

فمن سابع المستحيلات أن نتمكن من معرفة الشركات التي تعمل بطبيعة الـ"offshore" (أي خارج الحدود)، والتي لا يمكن الوصول اليها؛ وكل الفسادين يعملون للأسف بهذه الطريقة.

الحل الوحيد، والذي لا يوجد بديل عنه، يكمن في تشكيل هيئة قضائية شريفة مستقلة، بعيدا عن الضغوط السياسية، تتمتع بصلاحيات واسعة، من أجل التحقيق في المراحل السابقة بكاملها.

فنجد اليوم اللص والفاسد، في حين أن مصطلح "الأموال المنهوبة" غير موجود في القانون؛ فإما يكون الشخص لصا، وإما فاسدا يرتشي من المال العام بطرق ملتوية.

ومن يثبت عليه ارتكاب أي فعل جرمي في هذا الإطار، من المفترض أن يحال فورا الى المحاكمة. وعندما يتم اتخاذ قرارات قضائية بحقه، من الممكن المطالبة حينها باستعادة الأموال أينما كانت موجودة، وتحت أي ستار.

ولا بد من الاشارة، الى أن المحاكم الاستثنائية لا تتطلب الكثير من الوقت، لأنه من الممكن استقدام شركات عالمية مختصصة في التدقيق (audit)، لإجراء تدقيق على كل وزارة مع تشكيل لجان تدقيق (أي لا تدقق لجنة واحدة فقط في كل الوزارات والإدارات العامة، وفي جميع الأشخاص المستفيدين من المال العام).

دون أن ننسى طبعا، أن السلطة الفاسدة تستعين عادة بأدوات مختلفة، ومن هنا، يجب أن تكون كل هذه الأدوات تحت المساءلة القانونية (أي المتعهدين الكبار، السماسرة،...). وبالتالي، فإن اللجان المستقلة سريعة في إصدار تقاريرها، كما أن الهيئة القضائية الاستثنائية قادرة على اتخاذ قرارات فورية في هذه العملية. وبمجرد صدور قرارات قضائية، يكمن وضع اليد على المال أينما وجد.