"لا مال بدون اصلاحات " هذا ما سمعه رئيس الحكومة سعد الحريري من المسؤولين الفرنسيين وفي مقدمتهم ​الرئيس الفرنسي​ ايما نويل ماكرون . والى التركيز على جملة انتقادات عما تقوم به الحكومة ال​لبنان​ية والذي لا يصب في خانة الاصلاح الجدي ابرز الملفات ملف ​الكهرباء​ الذي يكهرب الدول المانحة والمؤسسات الدولية كما يكهرب اللبنانيين الذي يئسوا من خطط لم تفضي سوى الى حرمانهم من التيار، ومن أسوأ اداء للقطاع في العالم.

وعندما يتم التركيز على موضوع الاصلاح لا يمكن تجاهل مسألة ​التهرب الضريبي​ .

منذ فترة وجيزة ، حثت زيارة المبعوث الفرنسي، السفير بيار دوكان، المكلف بمتابعة مقررات مؤتمر سيدر، السلطات اللبنانية على تفعيل إجراءاتها لوضع حد للتهرب الضريبي والجمركي، كإجراء ضروري لوقف النزف الحاصل في ميزانية الدولة ومداخيلها، إلى جانب إجراءات إصلاحية أخرى، أبرزها تطبيق موازنة عام 2019، للوصول إلى عجز موازنة مُحقّق يوازي العجز المتوقّع، وإقرار موازنة عام 2020 في مهلها الدستورية، مع تخفيض ​الإنفاق​، وبدء العمل في خطّة الكهرباء و رفع التسعيرة، لتغطية خسارة تصل إلى 60 في المائة من مجموع الخسائر التي تتكبدها خزينة الدولة.

ونبه دوكان المسؤولين اللبنانيين الى أن استخراج ​الغاز​ و​النفط​ ليس عصاً سحرية ستغيّر الحال إلى الأفضل، وانما يجب الاهتمام بجملة أمور منها التهرب الضريبي والجمركي.

تعتبر ظاهرة التهرّب الضريبي سلوك في مفهوم الإقتصاد مبني على المصلحة الذاتية. وهناك إختلاف في القوانين المرتبطة به في الدول ؛ فبعض الدول كالليشتينشتاين يعتبر التهرّب الضريبي ​مخالفة​ بسيطة، اما الولايات المُتحدة تعتبره جريمة.

صحيح أن التهرّب الضريبي يصنف في خانة العملية السرّية التي لا يتمّ الكشف عنها، وثمة صعوبة في معرفة الرقم بالتحديد، ولكن لتقدير الحجم يتم الاستناد الى عملية ماكرو إقتصادية او الى تشريح التهرّب الضريبي وتقدير كل شق منه.

في لبنان ، في موضوع التهرب الضريبي ، كمعدّل عام هناك 4.5 مليارات دولار أميركي تخسرها الخزينة سنويًا أي ما يوازي 8.18 في المئة من الناتج المحلّي الإج​مالي​.

ويتوزع مبلغ الـ4.5 مليار دولار ما بين تهرّب من ضريبة الدخل يبلغ ملياري دولار

وتهرب من الضريبة على القيمة المضافة TVA يتراوح ما بين 1.3 و1.5 مليار دولار

سنويّاً، وفق ما تؤكد دراسة لصندوق ​النقد الدولي​. كذلك يُسجل تهرب ضريبي تبلغ قيمته 500 مليون دولار في ​الجمارك​، و200 مليون دولار في ​العقارات​ إضافة إلى أبواب أخرى كما في مجال رسوم الكهرباء وغيرها.

عندما قررت وكالة "ستاندرد اند بورز" للتصنيف الائتماني في تقريرها الدوري الاخير الإبقاء على تصنيف الدولة اللبنانية على ما هو B- مع نظرة سلبية بلّغت وزير المالية ​علي حسن خليل​ أن قرارها استند إلى نقطتين أساسيتين؛

النقطة الأولى هي بدء الإصلاحات الهيكلية في المالية العامة في موازنة 2019، والتي ستستكمل بإصلاحات جديدة في موازنة 2020؛ خصوصا في الجمارك والمشتريات ونظام التقاعد والتهرب الضريبي وقطاع الكهرباء، مما سيخفض ​عجز الموازنة​ برأيها تدريجياً إلى 4.8 في المئة من الناتج القومي في العام 2022.

والنقطة الثانية ترتبط بتوقعها باستمرار قدرة لبنان في المحافظة على الاستقرار النقدي .

كلفة التهرب الضريبي عالية جدًا على الدول وماليتها؛ ففي الولايات المُتحدة الأميركية مثلًا تبلغ الخسارة ما يوازي الـ ٢٪ من الناتج المحلّي الإجمالي (٣٦٠ مليار د.أ)، ​الإتحاد الأوروبي​ ٢ إلى ٢.٥٪ (٤٦٠ مليار يورو)… ويتمّ التهرّب الضريبي عبر التصريح الكاذب، إخفاء الحقيقة، وتغيير ​النشاط الاقتصادي​ للأموال.

ووفق خبراء وزارة المال في برلين إن ​ألمانيا​ و​فرنسا​ و​إيطاليا​ هي أكثر الدول الأوروبية التي تعاني من موجة التهرّب الضريبي، وتحتل إيطاليا المرتبة الأولى أوروبياً في هذا الملف ، حيث تبلغ فاتورة التهرّب الضريبي فيها نحو 190 مليار يورو.

تجدر الاشارة الى ان شركات الأوفشور تلعب دورًا أساسيًا في التهرب الضريبي على الصعيد الدولي كما أظهرته أوراق بنما.

ولمعالجة بعض الفجوات في تحصيل الضرائب تعمد الحكومات الأوروبية الى تسهيل الأمور على أرباب العمل عن طريق إعفاء بعضهم، وحتى بعض القطاعات الإنتاجية من الضرائب جزئياً.

اما في لبنان ، استنادا الى معطيات الخبراء فان الإقتصاد غير الرسمي يُشكّل أكثر من 38 في المئة من حجم الإقتصاد العام. من هنا فان المواطن اللبناني يعتبر أن الضرائب تذهب إلى جيوب بعض النافذين ، والامتناع عن ​دفع الضرائب​ مبرر.

كما ان الإحساس بضعف المؤسسات وعجز الدولة على فرض القانون ، وعدم قدرتها على ممارسة مسؤولياتها الرقابية من أجل وضع اليد على الممارسات التي تعد تهربا ضريبيا وإحالة أصحابها إلى القضاء تساعد في اللجوء الى التهرب .

يضاف الى هذه العوامل الكلام الخطير والمنثور حول ​الفساد​ المستشري داخل أجهزة الدولة، وداخل الإدارات الضريبية على وجه الخصوص، والتي تشجع على دفع الرشى بدلا من أداء الضرائب المستحَقة للدولة، او حتى ايضا الشعور بارتفاع معدلات الضريبة و​ثقل​ العبء الضريبي، وعدم الاستفادة في المقابل من أي خدمات حكومية، أو الاستفادة من خدمات ذات جودة.

صحيح ان اللبنانيين يرفضون تسديد الضرائب لأنهم لا يحصلون على الخدمات المفروضة والتي هي حقهم ، ولكنها اقتطاع مالي إجباري غير عقابي تحدده الدولة ويلزم الأشخاص الطبيعيون والمعنويون بأدائه للدولة بصفة نهائية وبدون مقابل خاص مباشر، وذلك تمكيناً للدولة من القيام بوظائفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .

الهدف من فرض الضرائب ليس توفير الأموال اللازمة لتغطية النفقات العامة للدولة فحسب، بل أصبح الهدف منه تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية وسياسية.

أهداف اقتصادية: تستخدم كأداة لتحقيق الاستقرار عبر الدورة الاقتصادية، بتخفيضها أثناء فترة ​الانكماش​ وزيادتها أثناء فترة الرواج.

أهداف اجتماعية: الحد من التفاوت بين الدخول ( تطبيق نظام الأسعار التصاعدية ) ، منح إعفاءات للفئات التي تقل دخولها عن حد معين .

أهداف سياسية داخلية أو خارجية: كما في حالة استخدام الرسوم – الضرائب الجمركية- لتسهيل التجارة الخارجية مع بعض الدول أو الحد منها.

باختصار ، ان مغامرة مكافحة التهرب الضريبي ليست سهلة ومعبّدة بالعراقيل خصوصا اذا لم يتم الالتفاف على قرار جريء بهذا الصدد يتخذه المسؤولون ويبدأون بتطبيقه على على كل المستويات بدون تردد وبسرعة .