نشهدُ زيادة في نظام العملة الذي يعرفه العالم منذ عدّة عقود، بحيث قد يصبح مستقبل المال "رقمياً".

وبات الكثيرُ من المستثمرين الأذكياء، يعلّق آماله (وفي بعض الحالات أمواله)، ويعتمدُ على ​العملات​ المشفّرة الخاصة مثل "​البتكوين​".

فيما الكثيرُ من محافظي ​البنوك المركزية​ والحكومات، تعتزم إصدار ​أموال رقمية​، أي التحوّل إلى التعامل بدون ورق، لتكون مقبولة عالمياً كشكل من أشكال الدّفع.

وتقوم البنوك المركزيّة، مثل "الاحتياطي الفيدرالي" منذ مدّة، بإصدار أموال رقميّة بالفعل، عبر البنوك التجارية التي لديها حسابات معها.

فيما تقوم البنوك التجارية بإقراض الأموال إلكترونياً للأسر والشركات، وتمكين العملاء من إجراء الدفوعات واستلامها رقميًا دون تبادل النّقد. لكن العملة الرقمية للبنك المركزي ستكون قفزة نوعية في مجال التبادل الرقمي.

وبدلاً من العمل فقط من خلال البنوك التجارية، قد تصدر البنوك المركزية العملة الرقمية مباشرة للجمهور، والتي يمكن استخدامها كمناقصة قانونية، بنفس الطريقة النقدية التي تجري حالياً.

أما تداعيات التحوّل للعملة الرقمية، فما زال الأمر غير واضح، لكن البلدان تقوم بتجربته حالياً، وقد تكون التداعيات عميقة وتطال كل شيئ، بدءاً من التجارة، إلى أسعار الفائدة إلى ​الخصوصية​.

وعلى سبيل المثال، تتضمن في الوقت الحالي معظم المعاملات المالية، سواء دفع فاتورة بطاقة إئتمان أو رهن أو إرسال أموال إلى قريب أو شراء شيء ما عبر ​الإنترنت​، تسوية المدفوعات على مجموعة من الأنظمة، مما يعني أن المال قد يستغرق يومين أو ثلاثة أيام للتحرك بين الحسابات.

فيما تسمح العملة الرقمية في حال اعتمادها، أن تتم إدارتها على شبكة واحدة للمال، وهو ما سيحدث تغييراً سريعاً. إذ إن معظم معاملات "البتكوين" على سبيل المثال، تستقرُّ في غضون 10 دقائق.

وباستخدام عملة رقمية، يمكن أن تحدث المعاملات في نفس الوقت، وتكون الرسوم أقل أو غير موجودة حتى.

ومن تأثيرات استخدام العملة الرقمية أيضاً، أن البنك المركزي في أي بلد يصبح في موقع المسؤول عن العملة الرقمية، وهذا ما يقوض الدور الذي تلعبه البنوك التجارية. وتفتح هذه الإشكالية الباب أمام الأسئلة الشائكة سياسياً، مثل ما يجب أن يفعله ​بنك الاحتياطي الفيدرالي​ بالودائع الإلكترونية الجديدة التي سيحتفظ بها من المستهلكون، بما في ذلك ما إذا كان ينبغي عليه دفع فوائد عليها أو تقديم قروض.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للعملات الرقمية أن تزيد من صعوبة عملات التشفير الخاصة. نظرًا لأن النقد الإلكتروني الحكومي سيتم تشغيله ودعمه والتحكم فيه مباشرة من قبل البنوك المركزية، فمن المرجح أن ينظر إليه على أنه أكثر موثوقية من العملات المشفّرة التي تم إنشاؤها من قبل ​القطاع الخاص​، والتي تعمل على شبكات لامركزية من المستخدمين وتتقلب قيمتها بشدة.

ولعل الأهم من ذلك كلّه، هو أن عالماً من العملات الرقميّة المنافسة، يمكن أن يشنّ نوعاً جديداً من حرب العملات.

فالدّولار الأميركي هو العملة المهيمنة في العالم منذ عشرينات القرن الماضي. لكن إذا سمحت العملات الرقمية بإجراء تحويلات مالية أسرع وأرخص عبر الحدود، فقد تظهر بدائل للدولار الأميركي قابلة للتطبيق، تحتضنها الدول والمسؤولون النقديون، ما يخفّض هيمنة ​الدولار​ على ​الإقتصاد العالمي​.

وكانت هيمنة الدولار منطقيّة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما شكّلت ​الولايات المتحدة​ 28 % من الصّادرات العالمية.

أما الآن، فهذا الرقم هوى إلى 8.8 % فقط، وفقا لـ "​صندوق النقد الدولي​". ومع ذلك، لا يزال الدّولار يهيمن على التّجارة الدّولية. ويتم إصدار نحو 40 % من التّجارة العالمية بالدولار، أي نحو أربعة أضعاف حصة الولايات المتحدة من ​التجارة العالمية​. ويُستخدم الدولار في 88 % من جميع عمليات تداول العملات الأجنبية في جميع أنحاء العالم.

أرضيّةٌ للتجربة

الأسرع حالياً في مجال العملة الرقميّة هي دولة ​الصين​، الذي يتحضّر البنك المركزي فيها لإطلاق نسخة رقمية من ​العملة الصينية​، "اليوان"، في وقت لاحق من هذا العام أو أوائل عام 2020. وستكون هذه العملة العالمية الرئيسية الأولى التي يتم ترقيمها.

ويمكن أن تكون فوائد الرقمنة لا تعد ولا تحصى. بالإضافة إلى ​التحويلات المالية​ الأسرع والأرخص عبر الحدود، وجد مسح أجراه "صندوق النقد الدولي"، أن البنوك المركزية تبحث عن فوائد مثل التكاليف المنخفضة و​السياسة النقدية​ الأكثر فاعلية، والمنافسة الشديدة من "البتكوين" وأقرانها، وتوفير شبكة خالية من مخاطر الدفع للجمهور.

ويمكن أن تكون النتيجة تغييراً هائلاً في النظام المالي الدولي، مما يؤثر إضافة إلى أمور أخرى، على التجارة بين الدول.

وفي الصين، حيث توجد ​تطبيقات​ دفع الأموال عبر ​الأجهزة المحمولة​ مثل "Alipay" في كل مكان، فإن نسبة كبيرة من التجارة المحلية انتقلت بالفعل إلى ​العالم الرقمي​.

وقد يكون هذا أحد أسباب تحرك "​بنك الشعب الصيني​" بشكل أسرع من البنوك المركزية الأخرى، لرقمنة عملته "​الرنمينبي​".

وسيكون "الرنمينبي" أرضًا هامة للاختبار. زاد استخدامه في ​الأسواق العالمية​ خلال العقد الماضي، وتجاوزت الصين الولايات المتحدة لتصبح الدولة التجارية الرائدة في العالم بهذا المجال.

وبالنسبة للصينيين ، فإن رقمنة "الرنمينبي" تعدُّ وسيلة للخروج من تحت إبهام الولايات المتحدة.

وقد لا يكون هدف الصين بالضرورة الإطاحة بالدولار. لكن بكّين تريد منح حلفائها بديلاً للدولار، وإنشاء نظام لا يمكن تعطيله من قبل الولايات المتحدة.

ولكن الأمر قد يكون فوضوياً، فعندما تخطى الدّولار، ​الجنيه الاسترليني​، كعملة احتياطية مهيمنة في العالم في أوائل القرن العشرين، كانت النتائج: إضطرابات إقتصادية.. وحرب عالمية أهلكت ​أوروبا​.

والتاريخ يُعلِّمُنا أن الانتقال إلى عملة احتياطية عالمية جديدة قد لا يتم بسلاسة.