بعد مرور مرحلة التصنيفات الدولية بأقل أضرار ممكنة، ها هو الإقتصاد يدفع مرة جديدة ثمن الإضطرابات السياسية التي تمثّلت بالإعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، فارتفعت تكلفة التأمين على ​ديون​ لبنان السيادية من مخاطر التخلف عن السداد إلى مستوى قياسي جديد هذا الأسبوع في حين تعرضت سنداته الدولارية لضغوط مجدداً.

ومن ناحيةٍ ثانية، يترقّب اللبنانيون الإجتماع الموسّع الذي سيعقد في 2 أيلول برئاسة وحضور رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ورئيسا المجلس النيابي ​نبيه بري​ والحكومة ​سعد الحريري​ وكافة الأفرقاء السياسيين للبحث في الوضع ال​اقتصاد​ي في ضوء ​التصنيف الائتماني​ الجديد واتخاذ الخطوات والتدابير بخصوصه.

ولمعرفة المزيد حول التطورات الأخيرة وعدد من المواضيع الأخرى، كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع مدير عام مساعد ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عوده​"، د. مروان ​بركات​:

بدايةً، كيف تقيم استيعاب الاقتصاد للتصنيفات الائتمانية الأخيرة، وهل كانت تستحق كل هذا التهويل المسبق؟

إن تأثير إجراءات التصنيفات الأخيرة على قاعدة المودعين في لبنان بقي محدوداً نسبياً، بالنظر إلى الثقة المستمرة في ​المصارف​ اللبنانية التي تتمتع بمكانة مالية قوية رغم البيئة التشغيلية الصعبة وفي ظل قطاع عام واهن يحدّ من التصنيفات السيادية بشكل عام. هذا ولا شك أن المؤسسات المرجعية الدولية والسلطات الرقابية المحلية ستقيّم عن كثب تصنيف وكالات التصنيف الأربعة، والتي يتم تقسيمها حالياً على النحو التالي: اثنتان منها أبقت تصنيفها على فئة B (Standard & Poor’s و Capital Intelligence) واثنتان خفّضت تصنيفها إلى فئة C (Moody's and Fitch). على هذا النحو، فإن تصنيف لبنان هو مزيج بين الاثنين، مما يتيح تحاوز رقابي (regulatory forbearance)، على الأقل في الوقت الحالي، وبالتالي لا يوجد ضغوطات إضافية على متطلبات رأس مال لدى المصارف خلال الأشهر الستة القادمة إلى سنة على الأقل. تجدر الإشارة هنا إلى أن ​مصر​ كانت قد حصلت على تصنيف CCC عقب بدء الاضطرابات السياسية عام 2011 مع تحاوز رقابي كامل من قبل مصرفها المركزي قبيل تغيير النظام السياسي في العام 2014، ومنذ ذلك الحين بدأ تنفيذ الإصلاحات التي دفعت وكالات التصنيف في النهاية إلى إعادة تقييم تصنيفاتهم إلى B- ومن ثم إلى B. ونحن نأمل بأن يتبع لبنان مسارًا مشابهًا عقب هذه التصنيفات الجديدة علّها تحفّز السلطات السياسية على الشروع في الإصلاحات المرجوّة وتجنّب لبنان تجرّع الكأس المريرة. عليه، وفي حال تمّ تنفيذ الإصلاحات في لبنان بشكل مناسب بدءًا من ​موازنة​ 2020 وخطة إصلاح قطاع ​الكهرباء​، إلى النتائج الإيجابية لبدء عملية التنقيب عن ​النفط​ و​الغاز​ في الفصل الأول من العام 2020، يمكن حينها أن ينتقل لبنان من حقبة المخاوف الماكرو اقتصادية إلى حقبة الاحتواء التدريجي للمخاطر والتهديدات. ما يمكن قوله أن التصنيفات الأخيرة سوف تشكل حافزاً لصانعي السياسات في لبنان للمضي بالاتجاه الإصلاحي على ما يبدو.

ارتفعت تكلفة التأمين على ديون لبنان السيادية من مخاطر التخلف عن السداد إلى مستوى قياسي جديد يوم أمس في حين تعرضت سنداته بالدولار لضغوط مجدداً، ما هي تأثيرات هذه المستويات وخاصّةً في هذه الفترة؟

يذكّر بركات بتقرير Goldman Sachs الأخير الذي يعتبر بأن السندات اللبنانية مقيّمة اليوم في الأسواق بأقل من قيمتها الفعلية وفقاً للمعايير العالمية، وذلك نتيجة بعض المخاوف ​السوقية​ المرحلية. ويعتقد أن العوامل الأساسية التي قد تحفّز أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية باتجاه أسعارها المحتملة الأكثر ارتفاعاً ترتبط بإشارات ثقة تخفّض من المخاطر السيادية الائتمانية. وأبرز هذه الإشارات المرجوّة: أولاً، الالتزام الكامل بعجز ​الموازنة العامة​ للعام 2019 والشروع مباشرةً بإعداد موازنة إصلاحية للعام 2020. ثانياً، بدء تنفيذ جزئي لمقرّرات مؤتمر سيدر من قبل الدول المانحة. ثالثاً، دعم إضافي من قبل دول مجلس التعاون الخليجي عن طريق إيداعات لدى ​مصرف لبنان​ أو عبر ​الاكتتاب​ بسندات اليوروبوندز اللبنانية. رابعاً، نتائج إيجابية لعملية التنقيب عن النفط والغاز التي ستبدأ في نهاية العام الجاري. ويلخّص بركات بالقول أن تحقُّق هذه العوامل من شأنه، إن حصل، أن يحفّز الطلب على سندات اليوروبوندز السيادية اللبنانية ويساعد على تقليص الهوامش على هذه السندات ويساهم بالتالي في سدّ الثغرة بين الهوامش الحالية والهوامش المرجوة.

ما هي توقعاتك للقاء المرتقب في القصر الجمهوري بـ 2 أيلول المقبل بين رئيس الجمهورية ورئيس ​مجلس النواب​ ورئيس الحكومة، وما القرارات التي يجب أن تتّخذ؟

على الرغم من أوضاع المالية العامة الواهنة في المرحلة الحالية، يرى بركات بأن المخارج لا تزال متوفرة وهي تتطلب خيارات اقتصادية صارمة من قبل واضعي السياسات وحدًا أدنى من الإجماع السياسي المأمول. وبالتالي على جميع الأطراف السياسية في البلاد الشروع في خيارات صعبة عبر إصلاحات هيكلية أكثر إلحاحية والتي من شأنها أن تجنّب لبنان تجرّع الكأس المريرة الناجمة عن غياب المبادرات الإصلاحية مع ما يترتّب على ذلك من تداعيات سلبية على الاستقرار الاقتصادي في المدى الطويل بشكل عام. إن تقييم متطلبات هذه المرحلة الدقيقة يشير إلى أن القرارات الإصلاحية يمكن أن تنبع من عدد من المصادر لاسيما تلك المتعلقة بالتقشف في ​الإنفاق العام​، إلى إصلاحات قطاع الكهرباء، تعزيز تعبئة الموارد ومكافحة ​التهرب الضريبي​.

فيما يتعلق بالتقشف في الإنفاق العام، هناك مجال لتخفيض النفقات غير الثابتة (أي خارج ​الأجور​ والرواتب وخدمة الدين و​التحويلات​ لمؤسسة كهرباء لبنان) بنسبة لا تقلّ عن 15%. وفيما يتعلق بإصلاحات قطاع الكهرباء، هناك إمكانية لخفض ملموس في عجزه ابتداءً من العام المقبل​​، عقب عجز قطاعي بقيمة 1.7 مليار دولار في العام الماضي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إصلاح القطاع عبر بناء محطات الطاقة اللازمة، وضمان الكهرباء على مدار 24 ساعة ورفع رسوم الكهرباء. مع الإشارة إلى أن تعرفة الكهرباء في لبنان يمكن أن تزيد بما لا يقل عن 40٪ (أي من 9.5 سنت لكل كيلوواط ساعة حاليًا إلى 14.4 سنت لكل كيلوواط ساعة، وهي تبقى أقل من المتوسط ​​العالمي البالغ 19 سنتًا لكل كيلوواط ساعة)، لاسيما عندما يتوقف اللبنانيون عن دفع فواتير مزدوجة وحصرها بفاتورة واحدة لمؤسسة كهرباء لبنان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفاتورة التي تُدفع للمولدات الكهربائية تبلغ حوالي 25 سنتًا لكل كيلوواط ساعة.

فيما يتعلق بتعزيز تعبئة الموارد، تجدر الإشارة إلى أن نسبة الاقتطاع في لبنان لا تتجاوز 19% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي، وهي أقل من متوسط البلدان النامية البالغ 26% ومتوسط البلدان المتقدمة البالغ 36%، ما يشير إلى القدرة على تعزيز النسبة في لبنان ببعض النقاط المئوية. في حين أن تعزيز الاقتطاع لا يزال خاضعًا للتجاذب السياسي في البلاد بسبب الضغوط الاجتماعية التي يمكن أن تولدها أي زيادات ضريبية في اقتصاد واهن النمو، نعتقد أنه كشرط أساسي لأي زيادة ضريبية، يحتاج لبنان إلى اتخاذ تدابير صارمة لمكافحة ​الفساد​ لكيّ يتم تقبّل ضرائب إضافية بشكل عام من قبل اللبنانيين. إننا نثمن بعض الجهود المبذولة لتعزيز الحوكمة ولكن ينبغي استكمالها بتدابير أكثر صرامة في الإدارة العامة.

أما فيما يتعلق بمكافحة التهرب الضريبي، نعتقد أن هناك مجال في السنة المقبلة لسدّ ما لا يقل عن 10% فجوة التهرب الضريبي التي نقدر حجمها بحوالي 4.8 مليار دولار، تتأتى بشكل رئيسي عن ضرائب الدخل وفواتير الكهرباء والضريبة على القيمة المضافة والضرائب الجمركية والعقارية. ما من شأنه أن يضمن إيرادات سنوية إضافية بقيمة نصف مليار دولار في العام المقبل، أي ما يعادل 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي، يكاد يناهز الجهد الإصلاحي السنوي الذي التزم به لبنان في مؤتمر "سيدر".

وفي حال تمّ تنفيذ جميع هذه التدابير، من الممكن خفض العجز المالي العام إلى ما دون 6% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المقبلة، مما يشير إلى أن أرقام المالية العامة لا تزال قابلة للاحتواء وأن البلاد لم تقع بعد في فخ المديونية، على الرغم من أوضاع المالية العامة الواهنة في المرحلة الحالية.

تجري أحاديث في الوسط المصرفي عن أنه ثمة مصارف اجنبية عديدة تحوم حول كبار المودعين في لبنان لإقناعهم بتحويل اموالهم الى الخارج، هل تعتقدون بأن المصارف لديها القدرة على مواجهة التحديات الراهنة؟

عند الكلام عن ​المخاطر الاقتصادية​ العامة في لبنان يجب النظر إليها بشكل نسبي. إذ لا نرى زعزعة للاستقرار المصرفي في لبنان في المدى المنظور كما يهوّل البعض، وذلك في ضوء المكانة الجيّدة التي تتمتّع بها عناصر الحماية المالية. إذ يتمثّل خط الدفاع الأساسي في صدّ أي خروج للودائع المحلية إلى الخارج، بحيث تمثل ​السيولة​ الأولية لدى القطاع المالي أكثر من 40٪ من الودائع بالعملات الأجنبية. أي أنه في حال رغب 40% من المودعين في مغادرة لبنان ونقل أموالهم إلى الخارج، فإن ​المصارف اللبنانية​ تملك سيولة كافية لتلبية احتياجات هؤلاء المودعين. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه خلال أزمات 2005 و2006، تم خروج ما يناهز 5٪ فقط كحد أقصى من قاعدة الودائع المحلية إلى الخارج. وبعبارة أخرى، في حال تكررت خضات مماثلة، يبقى لبنان، على الأقل مالياً، متماسكاً إلى حدٍّ بعيد. أما بالنسبة لخط الدفاع الآخر، فيتمثل بمستويات الرسملة القوية التي تحافظ عليها المصارف اللبنانية في حال التعرّض لضغوط، إذ وصلت نسبة الملاءة إلى 17.9% في نهاية العام 2018 حسب بازل 3، وفق آخر الأرقام المنشورة من قبل مصرف لبنان، ومعظمها أموال خاصة من الفئة الأولى، ما يشكل تغطية مؤاتية للمخاطر الائتمانية والسوقية والتشغيلية من قبل الأموال الخاصة للمساهمين.

من هنا، يشير بركات إلى أنه وبالرغم من أن المصارف اللبنانية تواجه ظروفاً تشغيلية صعبة ضاغطة على الحركة الاقتصادية الداخلية وعلى القدرة على توليد مداخيل مصرفية، إضافةً الى مفاعيل الضرائب الجديدة المؤثّرة على الربحية، إلاّ أنها لا تزال في وضعية سليمة تسمح لها بمواجهة التحديات المستجدّة. ويعود ذلك بشكل خاص الى قاعدة ودائعها الواسعة والمستقرّة، والى مكانتها المالية المريحة، والى ممارساتها المحافظة وامتثالها للمعايير الدولية، كما هو معترف لها به عالمياً.