ينتقد "​البنك الدولي​" في احد تقاريره الصادرة عن لبنان بشكل واضح غياب السياسة الإقتصادية التي تركت المُستثمرين في الأعوام 2007 إلى 2011 يستثمرون في ​قطاع الخدمات​ فقط، وهو قطاع له قيمة مضافة مُتدنيّة في الإقتصاد، بدل الإستثمار في قطاعي الصناعة والزراعة وهما قطاعان يتمتعان بقيمة مضافة عالية في الإقتصاد. الجدير ذكره، أنّ عبارة «قيمة مضافة» تعني إستدامة الوظائف في هذه القطاعات واستدامة نموّها .

ويأخذ ​الفقر​ حيّزاً مُهماً في تقرير البنك الدوّلي، حيث يُشدّد على مكافحة الفقر، وهذا الأمر لا يتمّ إلّا من خلال خلق الوظائف في ​القطاع الخاص​، حيث أنّ عدم توظيف اليد العاملة اللبنانية مسؤول عن هذا الفقر كما ينّص عليه التقرير.

اليوم الجميع يتربّص لما سيصدر عن وكالات التصنيف الدولية حول لبنان من تقارير ليبني على الشيء مقتضاه. وفي غضون ذلك ، لا يبدو انه في اجندة المسؤولين اجراءات انقاذية فعّالة توحي باستعادة الثقة التي فقدها الاقتصاد الوطني مع غياب الرؤية السليمة على مدى السنوات الاخيرة .

كلمة العجز اصبحت مستهلكة في كل المحطات السياسية والاجتماعية وليس فقط الاقتصادية .

إن تعزيز قدرة الاقتصاد الوطني، وتوسيع مصادر إيرادات الخزينة، والكف عن سياسة الاعتماد على التوّسع الضريبي بشكل رئيسي، وخصوصا الضرائب غير المباشرة، التي تسهم برفع كلفة السلع الأساسية، يؤدي إلى سوء الأوضاع المعيشية ويترك آثاراً مؤلمة على ذوي الدخل المحدود، ويسهم في تباطؤ النمو الاقتصادي بسبب تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين.

ويحتل قطاع الصناعة أهمية متزايدة في الاقتصاد الوطني باعتباره قاطرة للتنمية الاقتصادية الاجتماعية، ذلك أنه ضمانة لزيادة القيمة المضافة، كما يساعد على تأمين الاكتفاء الذاتي وتحسين الموازين الاقتصادية ودفع عملية التنمية.

ومنذ فترة تتوالى حملات دعم الصناعة اللبنانية في الاعلام وعلى المنابر . والمراقب لها يتوقع انها اصبحت بالف خير مع كل هذا الدعم المعلن لها والمبطن بفعالية لقطاع منافس آخر يريد النمو على ركودها الا وهو قطاع ال​تجارة​ الذي يتطلب تدابير حمائية من نوع آخر لاتلحق الاذى بالقطاع الصناعي .

اين هي الصناعة المحلية اليوم وسط حملات الدعم المبرمجة ؟ هل حصلت على كل الحوافز التشغيلية ؟ الصناعة ... ماذا بعد ؟

الجميل

رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين د. ​فادي الجميل​ المؤمن بالطاقات البشرية والموارد التي يتمتع بها لبنان مركزّا عليها في انهاضه وانعاش اقتصاده لا ينفي صعوبة ودقة المرحلة الراهنة.

ومن منطلق خبرته العلمية والاقتصادية ، يقول ان الصناعة جاهزة دائما لتعزيز الاقتصاد . وهناك اجراءات تمنع التدهور الحاصل في القطاع الصناعي . والمعادلة المطروحة اليوم لا تطابق المنظومة الاقتصادية اللازمة.

فمنظمة ​التجارة العالمية​ تحذر من عملية الاغراق في الاسواق . وجميع البلدان تدعم صادراتها وتؤمن لها عوامل المنافسة ، وتحمي القطاعات وتمنع اقفال الشركات وكذلك تبعد شبح ​البطالة​.

يوجد اليوم في لبنان زهاء 25 منتجا بينها 18 تعاني من الاغراق . وكان لا بد من وضع رسوم وقائية على المستوردات طبقا لما تفعله سائر دول العالم الحريصة على حماية اقتصادها .

ويقول ايضا الجميل "للاقتصاد": لقد تم اقرار رسم 3 بالمئة على المستوردات الخاضعة للـضريبة على القيمة المضافة بإستثناء ​البنزين​ والمواد الأولية الصناعية والزراعية، ولكن يجب ايضا منع التهريب وايقاف المنافسة غير الشرعية. فهناك افراد غير لبنانيين يملكون شركات تجارية ويتهربون من ​دفع الضرائب​.

من المفترض استكمال كل الاجراءات . القطاع الصناعي يستطيع تشغيل سائر القطاعات من تجارة ، ​مصارف​، ​سياحة​، تأمين ، زراعة ، ​محاماة​، وغيرها ...

ولنأخذ عّينة عن قطاع صناعي يعاني في لبنان وهو صناعة "الويفر"Wafers . فنحن نستورد بقيمة مليون دولار من "الويفر " . اي 80% من الانفاق تذهب الى الخارج ويبقى 20 % منها للمستورد والتاجر والتوزيع المحلي ، بينما اذا تم الاعتماد على ما هو مصنع محليا منها نلحظ ان نسبة 70% تبقى في الداخل و30 % للتصدير الى الخارج . ونسبة 70ال% مرتبطة بتشغيل قطاعات اخرى ايضا غير صناعية .

هناك مصانع لبنانية "للويفر" و كل مصنع هو بحدّ ذاته منظومة إقتصادية مصغّرة تؤمن فرص عمل للعاملين فيها من مدراء وعمال وأخصائيين وعمال صيانه وتقنيي برمجة ، وتفعّل عمل ومصارف وشركات التأمين و​شركات النقل​. ولكلّ مصنع جهاز للمبيعات وجهاز محاسبة ومدقق حسابات ومحام و​طبيب​. وعمل المصنع يستوجب تأمين آلات واجراء صيانة دورية من شركات متخصصة، وكذلك خدمات علاقات عامة واعلانية واعلامية. هذه المنظومة لا تتوقف على ما تتم الاستعانة به في الداخل، بل تستلزم ​استيراد​ مواد مثل ​الكاكاو​ ومواد حافظة عبر تجار مستوردين. بالاضافة الى هذه المنظومة فانّ كل مصنع "ويفر" بحاجة الى مواد أوّلية تُصنع في لبنان (سكر، دقيق، زيت وملح..) وبدوره كل من هذه المصانع يخلق منظومة مصغّرة على غرار معمل "الويفر"، كما انّ صناعة "الويفر" تقوم بتشغيل 7 مصانع في قطاعات التغليف وغيرذلك ...

ويضيف الجميل : على الاقل يوجد في لبنان 45 % من المنتجات المستوردة . لدى الصناعة قدرات حقيقية لتحفيز الاقتصاد ككلّ. وهذا ما اكد عليه تقرير "ماكينزي" الذي شدد على دور وأهمية ​القطاعات الانتاجية​ الصناعية والزراعية. وكذلك البنك الدولي الذي دعا الى وضع خطّة إقتصادية يكون عمادها إعادة هيكلة الإقتصاد لصالح القطاعين الصناعي والزراعي مع مكانة خاصة للقطاع الرقمي، الذي أثبت قدرة نمو في ظل أصعب الظروف.

ويؤكد الجميل ان الصناعي ليس ضد دعم باقي القطاعات . البعض رفض الرسوم بحجة اعفاء بعض المستوردات من الماركات منها. هذا غيرمقبول .

ويقول : منذ 5 سنوات ، اعددنا كجمعية صنا عيين رؤية اقتصادية تحمي كل القطاعات . كان ​الدين العام​ 54 مليار دولار قبل خمس سنوات، واصبح اليوم 85 مليار دولار، والصادرات كانت عام 2011 اربعة مليارات ونصف المليار دولار وانخفضت الى ملياري دولار اليوم.

قلناها بالامس ونقولها اليوم : الصناعة قادرة على تكبير حجم الاقتصاد اذا تأمن لها الدعم المطلوب .

ويضيف الجميل : لقد اصبحت الاولوية عندنا اليوم خلق فرص عمل للبنانيين . اذا اعتبرنا وجود 4ملايين لبناني مقيم يتحملون اعباء دين عام يقدر ب 85 مليار دولار اي ما معناه ان كل لبناني مديون ب 21،250الف دولار . نحن نستورد بقيمة 20 مليار دولار اي ان كل لبناني يستورد بمعدل 5 الآف دولار مقابل نسبة بطالة تفوق ال 25% .

فالتاجر يربح عندما يشتري البضاعة المصنعة محليا . الصناعة هي رأس الحربة في دعم اي اقتصاد وتعزيز دوره .

نحن كصناعيين منفتحون على سائر القطاعات . البعض منا يمتلك مصانع في الخارج بكلفة تشغيل اقل عما هي عليه في لبنان .لقد أطلق على ​الموازنة​ صفة تقشّفية، ولكنها بالتأكيد ليست تحفيزية ، وانما يجب تضمينها تدابير لوقف الهدر والانفاق غير المجدي ، الى جانب سنّ اجراءات تحفّز الاستثمار لتكبير حجم الاقتصاد مقابل ارتفاع حجم الدين العام . لم يعد مقبولا ان يكون حجم الاقتصاد حوالي 56 مليار دولار والدين العام 85 مليار دولار .

الاجراءات

وعن الاجراءات الملّحة والعاجلة الواجب اتخاذها يشير الجميل الى :

ضرورة ضبط التهريب .

معالجة مشكلة الاكلاف التشغيلية مثل ​الطاقة​ المكثفة .

تحفيز الصادرات لرفع قيمتها . لقد كانت في 2011 بحدود 4،5 مليار دولار وتراجعت 2018 الى 2،6 مليار دولار .

يكشف الجميل عن جملة عراقيل وتشنّجات تمنع من تنفيذ الاجراءات المحفزّة للقطاع . الرسوم النوعية هي بداية الطريق . ويرى انه يجب مراجعة تقرير "​ماكنزي​" . والالتزام بمؤتمر " سيدر" لا يكفي لوحده وانما من المفترض اتباع اجراءات مكملة حاسمة ضمن منظومة اقتصادية واضحة تحمي الصناعة والزراعة وتدعم تطورهما .

وعن جدية المنظمات الدولية في التركيز في مشترياتها على السلع اللبنانية الصنع يؤكد اهتمام وتفهم هذه المنظمات لهذه المسألة ضمن الامكانيات .

التوصيات والاجراءات

من الواضح اليوم ان ​الاقتصاد اللبناني​ دخل في نفق ​الانكماش​ الخطير . والعجزالمتنامي في ​الميزان التجاري​ يعكس الصورة القاتمة . ولكن من جهة ثانية ، تخفيض مليار دولار في ​العجز التجاري​ يقابله تأمين عشرين الف فرصة عمل بصورة مباشرة واربعة واربعين الف فرصة عمل بصورة غير مباشرة، وذلك وفق تقارير صادرة عن منظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو).

ويقول رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ :" من المهم هو ان نستثمر وفقاً لميزاتنا التفاضلية ولطاقاتنا الانتاجية. فحصة الصناعة من ​الناتج المحلي​ تقارب 4.6 مليارات دولار. وكونوا على ثقة ان باستطاعتنا مضاعفة هذا الرقم بعد 5 سنوات ومضاعفته ثلاث مرات بعد 15 سنة، كما باستطاعتنا ان نخلق أكثر من 50 ألف وظيفة جديدة من خلال هذا القطاع في السنوات الخمس المقبلة". وتابع: "جهودنا ستتركز في الفترة المقبلة على:

- استكمال الدراسات لإنشاء وتطوير المناطق الصناعية القادرة على توفر البيئة المحفزة للصناعيين.

- تشجيع المشاريع المشتركة مع القطاع الخاص الأجنبي.

- فتح الأسواق أمام المنتجات اللبنانية ورفع قيمة الصادرات اللبنانية من حيث الكمية والنوعية.

وفقاً لتقرير "ماكنزي" فان 195 الف لبناني يعملون في القطاع الصناعي، أي أن 195 الف عائلة في لبنان تعتاش من الصناعة. ونسبة نمو واحد في المئة في الصناعة تؤدي الى 1500 فرصة عمل جديدة، وفق ​منظمة الأمم المتحدة​ للتنمية الصناعية (يونيدو). وفي الارقام أيضاً، بلغت مساهمة الصناعة في الناتج الوطني 14% في العام 2018، وهي قابلة للزيادة وفق البنك الدولي.

هذه ​شهادات​ مؤسسات دولية معتمدة في تقاريرها وفي توصياتها ، ولكن القرار السياسي في لبنان المبني على المصالح الضيّقة والفردية يحجم عن تقديم كل الدعم اللازم للصناعة كي تقوم بواجبها في اسعاف الاقتصاد الوطني ورفع الناتج الوطني والاهم درء الويلات ومنع الانهيار.