شهد الاقتصاد اللبناني الحقيقي مزيداً من الوهن في الأشهر القليلة الأولى من العام 2019، كما يتضح ذلك من خلال المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن ​مصرف لبنان​. فالأخير الذي يعكس أداء نشاط القطاع الحقيقي، قد سجل متوسطاً قدره 303.4 في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2019، أي بتراجع نسبته 3.5٪ بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام الماضي، وذلك في مقابل نمو إيجابي وإن واهناً خلال السنوات القليلة الماضية، مما يشير إلى أن اقتصاد القطاع الحقيقي يرزح تحت ضغوط متزايدة.

هذا ال​انكماش​ في المؤشر الاقتصادي العام لا يعني بالضرورة أن نمو ​الناتج المحلي​ الإجمالي الحقيقي سلبي. فقد توقع ​صندوق النقد الدولي​ أن يبلغ ​نمو الناتج المحلي الإجمالي​ الحقيقي 1.3% في العام 2019. رغم أن هذا الأخير يعدّ واهناً بالمقارنة مع حاجات العمالة المحلية، فهو يشير إلى أن الاقتصاد الوطني لا يزال يتجنب الوقوع في فخ ​الركود​ الذي يمكن أن يشهده في حال سُجل انكماش صافٍ أو نمو سلبي في اقتصاد القطاع الحقيقي.

وما يدعم ​النمو الاقتصادي​ هذا العام هو الاستهلاك الخاص وتحسن حركة التصدير إلى حد ما. إذ يستفيد الاستهلاك الخاص من تحسن الأداء ​السياح​ي، لاسيما في ظل رفع الحظر السعودي بحيث ارتفع عدد ​السياح الخليجيين​ بنسبة 70% خلال النصف الأول من العام 2019، مما أدّى إلى نمو في قيمة المشتريات المعفاة من الضريبة بنسبة 12% خلال هذه الفترة. كما شهدت الصادرات ارتفاعاً نسبياً هذا العام، مدفوعًا بإعادة فتح الطرق البرية عبر ​سوريا​ وسط شبه استقرار للوضع الأمني فيها.

في المقابل، إن أكثر ما يثقل النمو الاقتصادي في لبنان هو وهن الاستثمار الخاص، لاسيما في ظل تأجيلٍ للقرارات الاستثمارية الخاصة، بحيث أن المستثمرين يتردّدون في الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة في ظل الأوضاع العامة الشائكة محلياً وإقليمياً. في الواقع، إن للاستثمار الخاص تأثير مضاعف على النمو الاقتصادي، بحيث أن تباطؤ الاستثمار يؤثر بشكل ملحوظ على نشاط القطاع الحقيقي بشكل عام.

هذا وإن أداء مؤشرات القطاع الحقيقي يعكس التباطؤ في القطاع الحقيقي. فمن أصل 11 مؤشر للقطاع الحقيقي، ارتفعت أربعة مؤشرات بينما تراجعت سبعة مؤشرات خلال النصف الأول من العام 2019 بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام 2018. ومن بين المؤشّرات التي سجّلت نمواً إيجابياً نذكر ​الواردات​ التي سجلت نمواً بنسبة 10.0%، والصادرات (+9.2%)، وعدد السياح (+8.3%) وعدد المسافرين عبر ​مطار بيروت​ (+3.5%). ومن بين المؤشرات التي سجلت نسب نمو سلبية نذكر تسليمات ​الإسمنت​ (-33.4%)، ومساحة رخص البناء الممنوحة (-30.8%)، وقيمة المبيعات العقارية (-29.6%)، وعدد ​مبيعات السيارات الجديدة​ (-23.4%)، وقيمة ​الشيكات المتقاصة​ (-16.3%)، وحجم البضائع في المرفأ (-10.4%) وإنتاج الكهرباء (-1.4%).

على الصعيد المصرفي، أدّى تباطؤ ​الأداء الاقتصادي​ المحلي الحقيقي هذا العام، مدفوعًا بوهن الاستثمار الخاص، إلى انكماش صافٍ في محافظ التسليف المصرفي. في الواقع، تقلصت ​التسليفات​ المصرفية الممنوحة للقطاع الخاص بقيمة 3.4 مليار دولار خلال النصف الأول من هذا العام في ظل ندرة فرص التسليف بشكل عام. ويأتي هذا الانكماش في حركة التسليف بالتزامن مع انخفاض في التدفقات المالية الوافدة إلى لبنان، مما أبقى الودائع المصرفية في نهاية حزيران 2019 على نفس مستواها تقريباً قبل عام (أي عند 172 مليار دولار).

أما على صعيد أسواق الرساميل، فقد شهدت أسواق الأسهم وسندات الدين مزيداً من الضغوط في النصف الأول من العام 2019. إذ ارتفع متوسط المردود المثقل على سندات اليوروبوندز بمقدار 23 نقطة أساس في النصف الأول من العام ليصل إلى 10.18%. أما هوامش مقايضة المخاطر الائتمانية من فئة خمس سنوات فقد أقفلت في نهاية حزيران على 883 نقطة أساس، وذلك من 770 نقطة أساس في نهاية العام 2018. وعلى صعيد سوق الأسهم، انخفضت ​أسعار الأسهم​ المدرجة في ​بورصة بيروت​ بنسبة 9.5% في النصف الأول من العام، في حين انخفضت القيمة الإجمالية لعمليات التداول بنسبة 39% على أساس سنوي.

الخلاصة: ال​موازنة​ العامة تحت المجهر

أقرّ ​مجلس النواب اللبناني​ أخيرًا موازنة تقشفية. فقد عقد ​مجلس الوزراء​ ما يقارب من 20 جلسة تلاها 35 جلسة نيابية، خُصصت لمناقشة موازنة العام 2019، والتي تم خلالها اتخاذ تدابير صارمة. وقد أدّت من خلال تخفيض ​الإنفاق​ وزيادة الإيرادات، إلى خفض في نسبة العجز المالي العام إلى 7.5% من الناتج المحلي الإجمال كما هو مستهدف في موازنة 2019، وذلك بانخفاض عن نسبة الـ11% التي سُجلت فعلياً في العام 2018. هذا وقد خُفضت نسبة العجز المالي العام إلى الناتج بنسبة 1% عن مشروع قانون موازنة العام 2018. وبالتالي، تكون ​الحكومة اللبنانية​ قد وفت بأولى التزاماتها لمؤتمر "سيدر" الذي أوصى بخفض نسبة العجز المالي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بما يوازي 5% في غضون خمس سنوات.

هذا وتتمحور الوفورات بين الأرقام الفعلية للعام 2018 والأرقام المُدرجة في موازنة 2019 حول وفر قدره 1.7 مليار دولار، بحيث ينتقل العجز المالي العام من 6.2 مليار دولار إلى 4.5 مليار دولار. من أصل هذا الوفر، يتأتّى حوالي 600 مليون دولار عن خفض في الإنفاق و1.1 مليار دولار عن زيادة في الإيرادات، مدفوعة بضرائب جديدة بالترافق مع تحسن نسبي في عملية التحصيل.

في المقابل، كانت ردود فعل المجتمع الدولي في الإجمال مرحّبة بموازنة 2019. ففي حين لا تزال وكالات التصنيف مشكّكة إلى حد ما، إلأ أن المؤسسات المرجعية الدولية و​المصارف​ العالمية قد رحّبت بالإصلاحات التقشفية التي تضمنتها الموازنة وبخطة إصلاح قطاع الكهرباء.

فيما يتعلق بالمؤسسات المرجعية الدولية، أشار البنك الدولي إلى إن الإصلاحات التي قامت بها الحكومة اللبنانية تسير على الطريق الصحيح، لاسيما عندما يتعلق الأمر ب​الموازنة العامة​ أو بخطة إصلاح قطاع الكهرباء، على أمل أن تستمر بنفس الوتيرة في المستقبل المنظور. كما رحّب صندوق النقد الدولي بهذه الخطوات الإصلاحية الأولى نحو نمو اقتصادي أكثر استدامة والتي يجب أن تنطوي على مزيد من الإصلاحات المالية والهيكلية لتعزيز بيئة الأعمال وأسس الحوكمة في لبنان. من جهته أصدر ​معهد التمويل الدولي​ تقريراً يشير فيه إلى أنه في ظل جهود التصحيح المالي الحالي، فإن نسبة العجز المالي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي ستتبع مساراً تنازلياً من 11٪ في العام الماضي إلى 1.2٪ في العام 2023، مع انخفاض في نسبة الدين العام إلى الناتج من 150٪ إلى 130٪ خلال نفس الفترة.

وفيما يتعلق بالمصارف العالمية، أصدر مصرف "​مورجان ستانلي​" تقريراً يشير فيه إلى أنه من المرجح أن تتم معالجة المخاوف المرتبطة بالمالية العامة بشكل جزئي، والأهم من ذلك أنه في حال مهدت اقتراحات الموازنة الجديدة الطريق أمام صرف بعض التزامات مؤتمر "سيدر" البالغة 11 مليار دولار، فإن الأسواق المالية من شأنها أن تتلقف الأمر بشكل إيجابي. بناءً على ذلك، فإن "مورجان ستانلي" لم يعد يتأبّى التوظيف في سندات اليوروبوندز اللبنانية خاصةً بالأسعار الحالية، مما أدّى إلى تغيير توصياتهم من سلبي إلى محايد. كما أصدر مصرف "​ميريل لينش​" تقريراً أشار فيه إلى أن موازنة 2019 تبشّر ببدايةٍ لعملية التصحيح المالي لسنوات قادمة في ظل الجدّية في التعاطي مع هذا الملف الملحّ، ناهيك عن أن هذه الموازنة قادرة على تحقيق خفض في نسبة العجز المالي العام بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الثاني من العام الحالي، بما يتماشى مع الالتزامات المطلوبة من قبل الحكومة اللبنانية تجاه الجهات المانحة، في حين أن المزيد من الإصلاحات المالية متوقعاً في العام 2020 بالتوازي مع إصلاح قطاع الكهرباء. من جهته، أشار مصرف "​جيه بي مورغان​" إلى أن موازنة 2019 تعزّز الآمال في معالجة الاختلالات القائمة، دون وجود صعوبات في تمويل عجز الموازنة، لكن المصرف توقع أن تبقى الاحتياطيات الأجنبية ترزح تحت الضغوط مع توقعات بالحفاظ على استقرار سعر صرف العملة الوطنية بالمدى المنظور.

وفيما يتعلق بوكالات التصنيف الدولية، فقد ذكرت وكالة "ستاندرد أند بورز" أن موازنة 2019 ليست كافية لاستعادة الثقة، إذ أن الإنحراف عن الهدف الجديد يمكن أن يحدث خاصةً وأن أي تدابير لخفض الإنفاق لن تنفّذ إلا في النصف الثاني من العام. كما ذكرت وكالة "​موديز​" أن مشروع الموازنة يستعيد الفائض الأولي في المالية العامة لكن مسار نسب المديونية لا يزال يشوبه تحديات. وفي الإطار ذاته، صدر عن وكالة "فيتش" تقريراً أشارت فيه إلى إنه قد يكون هناك بعض التأثير الإيجابي على المناخ العام ولكن الوكالة ترغب في رؤية بعض النتائج الملموسة بغية أن يكون للموازنة تأثير مستدام على عامل الثقة. كما أشارت الوكالة إلى أنه يتطلب المزيد من الإصلاحات المالية والهيكلية لكبح نمو نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.

في هذا السياق، فإن تقييمنا الختامي يشير إلى أنه وعلى الرغم من الاختلالات القائمة في لبنان، لاسيما على مستوى القطاعين الخارجي والمالي العام، فإننا نعتقد أن المخارج لا تزال متوفرة وأن سيناريو الهبوط الآمن في المالية العامة لا يزال ممكناً إذا ما تم اتخاذ تدابير وخيارات اقتصادية صارمة، وأولى الإشارات قد بدأت بالظهور مع موازنة 2019 وخطة إصلاح قطاع الكهرباء. وبالتالي، مع تطبيق الإصلاحات الملحّة بشكل ملائم، يستطيع لبنان أن ينتقل إلى حقبة الاحتواء التدريجي للمخاطر والتهديدات الكامنة كشرط أساسي لتحقيق النهوض الاقتصادي المنشود في المدى المتوسط والطويل.

في الختام، ما يجعلنا نعتقد بأن احتمالات الشروع في إطلاق عجلة الإصلاحات باتت الآن أكثر جدّية رغم التحديات المرهونة بالتجاذبات السياسية المستمرة، مرتبط بتوفّر بنى الحوكمة في الآونة الأخيرة لاسيما وأنه لم يعد يوجد شغور وخروق شرعية في بنى الحوكمة العامة. في الواقع، لم يعد هناك شغور في موقع رئاسة الجمهورية، كما بات هناك حكومة وحدة وطنية ومجلس نيابي منتخب حديثًا يقوم بمهامه التشريعية بكل فعالية، ناهيك عن إقرار قانون موازنة يشرف على تنظيم حسابات الدولة بعد 12 عامًا من غيابٍ للموازنات العامة، إضافةً إلى تجديد ولاية ​حاكم مصرف لبنان​. عليه، فإن أطر الحوكمة تلك تعزّز القدرة على الشروع في تطبيق الإصلاحات التي طال انتظارها، خاصةً وأنه بات هناك إدراك متزايد من قبل جميع الأطراف السياسية للحاجة الملّحة للمضي قُدماً في هذا الاتجاه الإصلاحي من أجل تجنيب لبنان تجرّع الكأس المريرة في الأفق بشكل عام.