يبذل الأوروبيون هذه الايام كل الجهود الممكنة لإنقاذ الاتفاق ​النووي​ مع ​ايران​، لان القرار الاميركي الاحادي بالانسحاب من هذا الاتفاق قبل عام ، وضع جميع اطرافه أمام مأزق كبير ، ليس فقط على المستوى السياسي ، وانما ايضا على المستوى الاقتصادي البحت، وهو ما ينبغي التركيز عليه هنا.

على عكس ما تزعم الدعاية الاميركية عن مبررات الانسحاب من الاتفاق النووي ، فان الاسباب الاقتصادية تتقدم على الاسباب السياسية ، فالرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ سعى منذ بداية ولايته لتحويل العلاقات الدولية لعلاقات اقتصادية وتجارية بحسب رؤيته الشخصية ، وكذلك جعل النزاعات تجارية- مالية لا عسكرية. وقد ظهر ذلك جليا في استهداف ​الصين​ بالدرجة الاولى في الحرب الاقتصادية ثم ​روسيا​ ثم ​الاتحاد الاوروبي​ ثم بقية الدول ، وما محاولة الغاء الاتفاق النووي سوى وجه من وجوه تلك الحرب الاقتصادية على ​اوروبا​ وآخرين من خلال ايران.

مكاسب ايران

لا شك ان توقيع ايران للاتفاق النووي حقق لها مكاسب اقتصادية ومالية هامة ، اهمها الخروج من العزلة الدولية والطوق المفروض على اقتصادها ، فجرى رفع ​العقوبات​ المفروضة عليها والتي كانت تشمل العديد من القطاعات الاقتصادية والمالية والعسكرية. وهذه العقوبات لم تكن احادية مفروضة من دول معينة ، فقد تمكنت ​طهران​ سابقا من التعايش معها ، الا ان ما أثقل الاقتصاد ال​إيران​ي بدأ بعد نقل الملف النووي إلى مجلس الامن وفرض عقوبات تحت البند السابع من ميثاق ​الامم المتحدة​ ، وشملت تلك العقوبات ​البنك المركزي الإيراني​ وشركات ​النفط​ و​الغاز​ والطيران، كما جمدت أكثر من مئة مليار دولار من أرصدة إيران في الخارج.

بعد توقيع الاتفاق النووي تضاعفت مداخيل إيران من صادرات ​الطاقة​ ، واستفادت من التكنولوجيا الحديثة في ​قطاع الطاقة​ بعد عقود من منعها ، وارتفع مستوى الاستثمار الأجنبي إلى نسب غير مسبوقة وفق التقديرات،وبدأ ​الاقتصاد الايراني​ خطوات نحو طفرة كان مقدرا لها ان تستمر لعقد كامل.

وقد ساهم رفع العقوبات بفك تجميد الارصدة الايرانية في الخارج والتي تتراوح بين 100 و120 مليار دولار ، استفادت منها طهران لابرام عقود كثيرة مع ​الدول الاوروبية​ .

خلاف الشركاء

اختلفت المصالح بين شركاء ايران في الاتفاق النووي ، الصين ، روسيا ، ​الولايات المتحدة الاميركية​، ​فرنسا​ ، ​المانيا​ ، و​بريطانيا​. فقد استفادت كل من روسيا والصين من علاقاتها الجيدة السابقة للاتفاق مع ايران لتوقيع عقود بمشاريع ضخمة جديدة ، او اطلاق مشاريع تعاون كانت عقوبات مجلس الامن قد جمدتها. وقد استفاد صديقا ايران خير استفادة من الاتفاق، وهو ليس امرا جديدا .

اما الجديد فقد كان الحجيج الغربي إلى طهران بسرعة فائقة بعد توقيع الاتفاق النووي، من اجل الاستفادة من فرصة تاريخية لانعاش الاقتصادات الاوروبية التي تأثرت سلبيا بشكل كبير بالازمة الغربية – الايرانية حول ​السلاح​ النووي.

قبل فرض العقوبات على إيران عام 2012 كان ​الاتحاد الأوروبي​ أكبر شركاء إيران التجاريين. وفي عام 2011 كان لإيران فائض تجاري كبير مع الاتحاد الأوروبي. وشهد عام 2012 تراجعا كبيرا في التجارة بين البلدين، لكنها شهدت ازدهارا كبيرا من جديد منذ عام 2016.

وفي عام 2017، بلغت قيمة إجمالي الصادرات الأوروبية إلى إيران من البضائع والخدمات 10.8 مليارات يورو (12.9 مليار دولار)، بينما بلغت ​الواردات​ من إيرادات إلى الكتلة الأوروبية 10.1 مليارات يورو. وبلغت قيمة الواردات ضعف أرقام عام 2016 تقريبا.

وكانت غالبية واردات الاتحاد الأوروبي من إيران منتجات مرتبطة بالطاقة، إذ تجاوزت ​المنتجات البترولية​ وغيرها من أنواع ​الوقود​ 75 في المئة من الواردات.

وكانت الصادرات الأوروبية إلى إيران في الأساس من آلات وماكينات ومعدات النقل، تليها المنتجات الكيمائية.

وخلال الازمة ومع تزايد العقوبات على ايران هبطت التبادلات التجارية مع إيران لتشكل 0.6 في المئة فقط من إجمالي ​التجارة العالمية​ للاتحاد الأوروبي، بينما كانت الصين واحدة من الشركاء التجاريين البارزين بنسبة 22.3 في المئة من إجمالي التجارة الإيرانية.

صفقات وغضب

فور توقيع الاتفاق النووي ، سارعت الدول الاوروبية الى توقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية كبرى مع ايران ، وقد ظهر الغضب الاميركي جليا وسريعا من استبعاد الشركات الاميركية من تقاسم الجبنة النفطية الايرانية ، ولكن الرئيس ​باراك اوباما​ الذي وقع الاتفاق خلال ولايته لم يتحرك ولم ينقض التوقيع الاميركي ، ما جعل دونالد ترامب المرشح للرئاسة وقتها يضع اسقاط الاتفاق كهدف رئيسي له.

ومع الانسحاب الاميركي من الاتفاق لم ينفك ترامب يكرر رغبته بالتفاوض على اتفاق جديد ، ما يعيدنا الى ما قاله كل اركان ​البيت الابيض​ ايام اوباما ، من ان الاتفاق من الناحية السياسية والعسكرية والتقنية (النووية ) لا عيب فيه ، وان ما يريده ترامب هو تحقيق رؤية شخصية خاصة به ، والمقصود هنا رؤية اقتصادية . وكما الغى مجموعة من القوانين والبرامج التي وضعها اوباما على الصعيد الداخلي ، واهمها برنامجه الصحي، فان ترامب الغى التوقيع الاميركي على الاتفاق النووي.

الرابحة الخاسرة

اوروبا كانت الرابحة الاكبر من الاتفاق النووي وهي اليوم الخاسرة الاكبر، فمنذ رفع العقوبات أبرمت ​صفقات تجارية​ كبرى بين الاتحاد الأوروبي وإيران، من بينها:

شركة توتال​ (فرنسية) أبرمت عقدا بقيمة 5 مليارات دولار لمساعدة إيران في تطوير أكبر حقل غاز في العالم، حقل جنوب بارس.

ساغا​ للطاقة (نرويجية) عقدت صفقة بقيمة 3 مليارات دولار لبناء محطات لتوليد ​طاقة شمسية​.

شركة ​إيرباص​ توصلت لصفقة تبيع بموجبها 100 طائرة ركاب إلى شركة إيران إير.

شركة التوربينات الأوروبية "إيه تي آر" (وهي شراكة بين شركتي ليوناردو الإيطالية وإيرباص الأوربية) وافقت على بيع 20 طائرة إيران.

سيمنز​ الألمانية وقعت عقودا لتحديث شبكة السكك الحديدية الإيرانية وإعادة تزويدها بـ 50 قاطرة.

شركة إف إس الإيطالية المملوكة للدولة عقدت صفقة بقيمة 1.4 مليار دولار لبناء خط سكك حديدية فائق السرعة بين مدينة قوم وأراك.

رينو الفرنسية​ عقدت صفقة لتنفيذ مشروع مشترك، بما في ذلك إنشاء مركز هندسي ومصنع إنتاج لتعزيز القدرة على إنتاج سيارات رينو في إيران إلى 350 ألف حافلة سنويا.

بالاضافة الى مئات العقود الاقل حجما واهمية بمليارات الدولارات. وقد جعل القرار الاميركي ، بحظر اي شركة اوروبية تعمل في ايران وفرض عقوبات عليها ، الاوروبيين يتراجعون ويلغون كل مشاريعهم في هذه الدولة.

محاولة يائسة

يأمل الأوروبيون في إقناع الايرانيين بانهم متمسكون بالاتفاق النووي وبرغبتهم في استمرار التعاون معهم ، عبر تطبيق الية تسمى "إينستكس" وهي ​آلية​ مقايضة للالتفاف على ​العقوبات الاميركية​ بتجنب استخدام ​الدولار الاميركي​، اي ان ايران تشتري من ​الاسواق الاوروبية​ ويشتري الاوروبيون منتجات من ايران بالقيمة نفسها.والتزمت عشر دول أوروبية استخدام هذه الآلية على أن تنضم أيضاً دول غير أعضاء في الاتحاد الاوروبي الى هذه المبادرة. ولكن ذلك لم يقنع طهران لانه غير كاف لاستمرارية الاقتصاد الايراني ، وخصوصا ان الحظر الاميركي المفروض على كل دول العالم ومنعها من شراء النفط الايراني احبط كل الجهود التصالحية الاوروبية ، ولم يبق امام ايران سوى المواجهة .

وبالعودة الى الموقف الاميركي فان ترامب لم يتعب من تكرار رغبته باعادة التفاوض مع ايران على اتفاق نووي جديد ، وكذلك عدم رغبته خوض حرب ضد طهران ، وفي آخر التصريحات قال : "نريد مساعدة إيران والعمل معها، ولا نسعى إلى تغيير النظام فيها". وهذا يعني برأي خبراء الاستراتيجيا والاقتصاد ، استمرار الحرب الاقتصادية ضد ايران ، حتى تحقيق المصالح الاميركية ، اي حين يقبض ترامب الثمن . وهذا يعني طموح اميركي لاتفاق نووي مستقبلي مشروط بتعهدات من ايران بفتح الابواب مشرعة امام الشركات الاميركية لتتولى هي المشروعات الكبرى ، كما كانت ايام حكم الشاه السابق لثورة الخميني ، وهذا يعني تدجين هذا البلد اقتصاديا ، وازاحة اي منافسة صينية أو روسية أو اوروبية.