أعاد تقرير بعثة ​صندوق النقد الدولي​ إلى لبنان الاسبوع الماضي طرح نقطتين ساخنتين باقتراحه على الحكومة المسارعة برفع نسبة الضريبة على القيمة المُضافة و الرسم على ​البنزين​، لتحقيق ايرادات فورية تمنع الدولة من الافلاس.

هذا المطلبان لو نفذا يناقضان كل تصريحات ومواقف المسؤولين عن عدم تحميل الطبقات الشعبية اعباء اضافية ، والبحث عن مصادر دخل أخرى لاعادة بعض التوازن في  ال​مالي​ة العامة . فهل تقدم عليهما الحكومة تحت ضغط صندوق النقد والمؤسسات الدولية الاخرى ؟

3 محاور

التقرير المذكور ، والذي نشرت خلاصته فقط بانتظار عرضه كاملا ، يطالب ​الدولة اللبنانية​ باصلاح ماليتها عبر 3 محاور :

1- خطة مالية متوسطة الأجل ذات صدقية تهدف إلى تحقيق فائض مالي أساسي كبير ومستدام من شأنه أن يخفض بشكل مطرد نسبة ​الدين العام​ إلى ​الناتج المحلي​ الإجمالي بمرور الوقت. 

2- الإصلاحات الهيكلية الأساسية لتعزيز النمو والقدرة ​التنافسية​ الخارجية، بدءاً من تحسين الحوكمة. وكذلك تنفيذ خطة إصلاح قطاع ​الكهرباء​ وتوصيات الرؤية الاقتصادية.

3- تدابير لزيادة مرونة القطاع المالي من خلال ميزانية عمومية أقوى ل​مصرف لبنان​. والاستمرار في بناء ​مخازن​ رؤوس أموال ​المصارف​.

ويندرج اقتراح رفع نسبة الضريبة على القيمة المُضافة و الرسم على البنزين تحت المحور الاول من اجل تأمين فائض مالي اساسي ، من خلال سحب السيولة من المواطنين والاسواق ، وايداعها في خزائن الدولة على شكل ضرائب اضافية . فهل سيتحقق الوفر الذي يطلبه صندوق النقد ؟

بالتأكيد لا ، لان مكامن الهدر في القطاع العام، على مستوى الموظفين او على مستوى ​التهرب الضريبي​ والجمركي، وكلها أهملها التقرير ، هي من الاجراءات المتوسطة والبعيدة المدى ، وتندرج تحت المحورين الثاني والثالث . وجل ما يريده الصندوق بسبب الاوضاع المالية الدقيقة ، إجراءات سريعة قادرة على إعطاء نتائج فورية تسهم في منع الانهيار، ولكن ما سيحصل حقيقة ، مع استمرار النزف ، هو تأجيل الانهيار لاشهر قليلة.

قرض جديد

الواقع ان حكاية زيادة الرسم على البنزين (يقال 5 الاف ليرة للصفيحة ) ورفع ضريبة الـTVA إلى 15%  ، ليسا من ضمن اجراءات الاصلاح ، وانما هما شرط من شروط منح صندوق النقد الدولي قرضا للبنان ، قيمته مليار دولار ، لدعم الخزينة. فقد اكتشفت الدولة ان الاصدارات المتتالية لسندات الخزينة لم تعد قادرة على تمويل مصاريفها الباهظة ، وهي بالكاد تكفي لخدمة الدين العام المتنامي ، وحتى لا تصل الى مرحلة العجز عن دفع رواتب الموظفين والمصروفات الاخرى ، ستضطر للاستدانة بطرق أخرى. 

هذا القرض مؤجل حتى تنفذ الحكومة مطالب صندوق النقد ، ومن المرجح ان لا تستطيع تمرير هذين الاجراءين الجديدين ، زيادة الـTVA ورسم البنزين ، فهما ، نظريا ، الحل الاسهل ، ولكنهما واقعيا ، هما الاسوأ بنتائجهما المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد المتهالك اصلا .

الـTVA

ترفض المدارس الاقتصادية عبر العالم فكرة فرض ضرائب ورسوم إضافية في إقتصاد يمر في حال ​انكماش​ وركود ، لما لهذه الاجراءات من تداعيات سلبية على الحركة والدورة الاقتصاديتين. فالضرائب تساهم في كبح ​الاستثمارات​، ورفع معدل التضخم ونسب ​الفقر​ و​البطالة​، إضافة الى هروب رؤوس الأموال. وفي لبنان، لم يسجل الاقتصاد اي نمو هذا العام، وتشير التوقعات الى مرحلة مقبلة أسوأ . 

وبالتأكيد فان زيادة نسبة الضريبة على القيمة المضافة، سترفع الاسعار بنسبة تتراوح بين 10% حتى 15% وربما أكثر على بعض المنتجات او الخدمات... فزيادة الضريبة على القيمة المضافة، تدخل ضمن كلفة الانتاج الاساسية للمنتجات والسلع، وبالتالي، لن يتحمل هذه الزيادة الا المواطن في نهاية الأمر. 

ومن النتائج المباشرة ايضا جمود اكبر في الحركة التجارية . في السابق كانت المحال التجارية الكبرى، والمؤسسات التي تصارع للصمود تتحمل زيادة ضريبة القيمة المضافة من موازنتها، أي من أرباحها السنوية، حتى لا تخسر المزيد من الزبائن. أما اليوم فان هذه المؤسسات لن تستطيع ذلك ، وستنضم الى قافلة المفلسين الذي اقفلوا . لتزدهر من بعدهم سوق المحلات غير الشرعية التي تعجز وزارة الاقتصاد والتجارة على مراقبتها وملاحقة مخالفاتها . 

كما أن رفع الـ TVA سيؤدي الى زيادة التهرب من ​دفع الضرائب​ خلال الفترة المقبلة بخاصة في ظل استمرار أوكار ​الفساد​ والإهدار، وغياب الإصلاحات التي تساهم بالحد من التهرب الضريبي، والآليات اللازمة لمراقبة هذا الأمر.

البنزين

تفرض الدولة حاليا رسوماً على استهلاك البنزين بقيمة 5 آلاف ليرة على كل صفيحة، ثم تطبّق عليها ضريبة TVA ، أي أن الرسم الفعلي هو 6 آلاف ليرة + 2.500 ليرة تقريباً (TVA) على سعر تنكة البنزين، وهي تخالف القانون في هذا الشأن حيث أنها تفرض ضريبة على الضريبة. وبذلك تكون الضريبة التي تحصل عليها الدولة من كل صفيحة بنزين هو 8.500 ليرة كحدّ أدنى ويتحرّك صعوداً مع ارتفاع ​صفيحة البنزين​.

وفي حال قررت الحكومة زيادة رسم 5 آلاف ليرة جديدة ورفعت ضريبة (TVA) إلى 15 %، فإنها ستحصل من كل تنكة بنزين على نحو 15 ألف ليرة (10 دولارات)! وهذا ما سيؤدي إلى تضخّم هائل وارتفاع كبير في أسعار السلع الاستهلاكية وغيرها وموجة غلاء لا قدرة للبنانيين والاقتصاد الوطني والحكومة على تحمّل تبعاتها.

لحس المبرد 

نعم ستحقق الدولة ايرادات اضافية من زيادة الـ (TVA) ورسم البنزين ، ولكن هذه ​الايرادات​ لن تكون بحجم آمالها لانها ستأتي أقل من المتوقع بسبب تقلص الانفاق ، وتراجع الاستهلاك ،  والنقص الحاد في السيولة ، ومع مرور الوقت ستتناقص هذه الايرادات أكثر بدلا من زيادتها ، لصالح الاقتصاد الموازي غير الشرعي ، الذي تحميه ​مافيا​ التهرب الضريبي والجمركي وتهريب البضائع عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية.

السؤال المطروح بقوة هو من اين نأتي بالموارد ؟

لقد أعلن مصرف لبنان نيته ​إصدار سندات​ بقيمة 11 الف مليار ليرة، بفائدة واحد في المئة، ولكن ​المصارف اللبنانية​ اعلنت رفضها شراء هذه السندات ، لانها اعتادت على تحقيق ارباح هائلة ، وهي تعتبر ان الاكتتاب في سندات ذات عائدات بسيطة تضحية لن تقدم عليها وخصوصا في حال استمر الهدر الهائل في ​موازنة​ الدولة ولم تتحقق الاصلاحات الموعودة.

التقرير الاخير لصندوق النقد الدولي حذر صراحة مصرف لبنان من ان يتولى هو بنفسه شراء هذه السندات الرخيصة ، لانها ستستنزف احتياطه النقدي . وهذا صحيح . لذا فان الحل هو باقناع المصارف بشراء هذه السندات وتمويل الدولة بفوائد قليلة ، وذلك من خلال سلسلة من اجراءات وتطمينات للقطاع المصرفي ، وعدم استبعاد ممارسة بعض الضغوط ، في اطار القوانين.

الحذر واجب

ينبغي الانتباه جيدا الى خطورة الانجراف في موجة الاقتراض من الخارج ، وفقا لتوصيات صندوق النقد الدولي ، لان هذه ​الديون​ هي دائما مشروطة باجراءات موجعة للطبقات الشعبية ، وما "النصيحة " بزيادة الـ TVA ورفع رسم البنزين سوى أول الغيث ، فالمعروف من تجارب صندوق النقد عالميا انه يضع شروطا اقسى بكثير مثل طلب الخصخصة الكاملة لكل المرافق الحيوية ، وتقليص حجم القطاع العام الى الحد الادنى ، او خفض الاجور جذريا والغاء التعويضات ، والغاء الدعم عن المواد الاساسية ... الخ . 

وغالبا ما احدثت مطالب صندوق النقد القاسية ثورات اجتماعية في العديد من الدول ، لانها شروط مالية بحتة لا تراعي الجوانب الانسانية والاجتماعية .

لقد سقطت اقتصادات دول نامية كثيرة تحت وطأة الشروط الدولية ، ولكن السبب الرئيسي هو فشل السياسة الحكومية في ادارة البلد ، كما ان هناك استثناءات لدول اخرى استفادت من ​قروض​ صندوق النقد ونصائحه لتحسين اقتصاداتها فاستطاعت تحقيق نسب مهمة من النمو بفضل سياسات اقتصادية ومالية اضحة وهادفة ... وهذا ما نفتقره في لبنان .