لم تتمكن التوترات الامنية والاحتقان السياسي السائد من حجب الاهتمام بتوصيات ​صندوق النقد الدولي​ الذي لاقى بما اطلقه الاسبوع الاخير إفادات وكالات " ​موديز​ " و"​فيتش​" و"ستاندرد اند بورز"و غيرها ... حول قلقها من المؤشرات النقدية المتعلقة بضعف تدفق الرساميل إلى لبنان ومن عدم قدرة الحكومة على الايفاء بالتزاماتها في تسديد الدين وخفض العجز في ميزان المدفوعات .

ومن المعلوم ان ما نقل عن صندوق النقد الدولي إثر لقاءاته مع المسؤولين سيتبعه تقرير فصلي صادر عنه يفصّل الوضع ال​اقتصاد​ي اللبناني ويبني عليه ​المجتمع الدولي​ نظرته وتصنيفه . ومن يدري ربما الدول المانحة في مؤتمر "سيدر" بانتظار هذه الإشارة لتحديد مستوى ثقتها بلبنان .

اعتبر الصندوق أن تدابير ميزانية لبنان لعام 2019 لخفض العجز المالي تؤدي إلى نحو 9.75 بالمئة من ​الناتج المحلي​ الإجمالي.

ووفق منظاره أن "​شراء السندات​ المنخفضة الفائدة المقترحة سيؤدي إلى تدهور ميزانية ​مصرف لبنان​ وتقويض مصداقيته وانه على ​مصرف لبنان المركزي​ أن يتراجع عن شراء السندات الحكومية ويدع السوق تحدد العائد على أدوات الدين الحكومية".

بعيداً عن موضوع ​الكهرباء​ الذي يرى الصندوق بضرورة تسريع تنفيذ الخطة علما ما من خطة فعلية متكاملة ، يدعو صندوق النقد الى ضرورة العمل على خطة مالية متوسطة الأجل ذات صدقية تهدف إلى تحقيق فائض مالي أولي كبير ومستدام من شأنه أن يخفض بثبات نسبة ​الدين العام​ إلى الناتج المحلي الإجمالي. هذا الى جانب المضي بإصلاحات هيكلية أساسية لتعزيز النمو والقدرة ​التنافسية​ الخارجية.

برّر صندوق النقد لمصرف لبنان و​المصارف​ التجارية عدم المشاركة في اصدارات ​سندات الخزينة​ المنخفضة . وبرأي وكالات التصنيف ان مسار الدين العام لا يزال يشكّل تحدياً، واستبدال السندات القديمة ذات الفائدة المرتفعة، بسندات فائدتها منخفضة، غير كافٍ لتعديل مسار الدين بسبب ارتفاع أسعار الفائدة ​السوقية​. هذه العملية ستخفف من ​ثقل​ الدين ولا تعدّل مساره. اذاً القدرة على سداد الدين تتدهور و تقابلها تحديات العجز في ال​موازنة​.

الخيار في دخول سوق السندات اللبنانية مرتبط بالطبع بمصرف لبنان وبالمصارف ، وتوصية صندوق النقد الدولي ليست ملزمة . ولكن لماذا جاء هذا التحذير من قبل أعلى مرجعية دولية اقتصادية ؟ وما هي تداعيات تحذيره لمصرف لبنان والمصارف من شراء السندات ؟

سرّوع

يقول ​الخبير الاقتصادي​ الدكتور جو سروّع "للاقتصاد" انا اليوم مع التوصيف للوضع الاقتصادي الذي اطلقه صندوق النقد الذي هو بمثابة ذراع ​البنك الدولي​ المعني اساسا بدراسة اقتصادات الدول التي تكون في دائرة اهتمام هذا الاخير ، بهدف مساعدتها ماليا وتقنيا لتحفيز نمو اقتصاداتها على اسس مستدامة. وتصنّف هذه الدول بالنامية او الاقل نموا، فيتمّيز الشق المالي من الدراسة بشموليته ودقته وتجميد ​المخاطر الاقتصادية​ وتداعياتها المالية والنقدية والاجتماعية .

والدراسة التي قام بها الصندوق هي تقنية . ولكن نحن نقول هناك خصوصية لكل بلد معني بالتقرير المعد. نحن مع ان يتحفظ مصرف لبنان والمصارف في المرحلة الراهنة عن شراء سندات خزينة منخفضة الفائدة تنوي وزارة المال اصدارها وهي بقيمة بقيمة 11 ألف مليار ليرة وبفائدة 1%، في ضوء الاداء غير المقبول للموازنة والتوترات الامنية والسياسية المتنقلة .

فإن طرح هذا الموضوع في هذه الظروف التي يتنامى فيها العجز شبيه بمسألة شراء مجوهرات و تخبئتها في مكان العجز.

والنتائج سلبية على مصرف لبنان وعلى القدرات المالية للمصارف في حين ان هذه الاخيرة تحتاج اليوم الى مناخات استثمارية ، الى تطوير اعمالها وقدراتها لاسباب تتعلق بالنمو. وبالتالي ، لا نرى اي فائدة من دخولها في سوق السندات طالما هناك غياب لأي إجراءات للسيطرة على ​الوضع النقدي​ والمالي .

ويلفت سرّوع الى ضرورة تضمين موازنة 2020 سلسلة تدابير طارئة وملّحة تتعلق بالكهرباء ، بالاملاك البحرية وبضبط معابر ومكامن التهرّب الضريبي. فالتفريط بقدرات المصارف ليس في التوقيت المناسب.

ويقول سرّوع:" المطلوب تحسين الاداء في العجز ، خلق النمو وتحفيزه ، وايضاً ضبط الاستقرار في البلد. وهناك سلة إجراءات مكملة لإستعادة التوازن في الدولة ولتخفيض قيمة الدين وتحقيق فائض مالي اولي وتخفيض نسبة الدين العام من الناتج المحلي ، ودون ذلك كله لا شيء يجدي نفعاً.

السندات والثقة

تجدر الاشارة الى انه من تدابير الحكومة تخفيف تكاليف خدمة الدين من خلال ​إصدار سندات​ خزينة منخفضة الفائدة بالتنسيق مع مصرف لبنان . ولكن في المقابل، يتم تجاهل اي إجراء من شأنه تأمين المرونة للقطاع المالي بعد تعزيز ميزانية مصرف لبنان ومساعدة المصارف على تقوية رأسمالها.

استناداً الى وكالة "بلومبرغ" إن سندات اليوروبوندز اللبنانية دخلت في مساحة شديدة التوتر بسبب تأخر إقرار ​الموازنة​ وارتفاع منسوب التوتر في المنطقة، ما يعقّد مواجهة الأزمة المالية في البلاد. وظهرت مؤشرات إضافية على هذا التوتر، على مسار تداولات السندات، إذ إن تلك التي تحمل آجالاً قصيرة المدى سجلت ارتفاعاً في هوامش الفائدة أعلى من تلك التي تحمل آجالاً أطول. بعض السندات ارتفع هامش العائد عليها أكثر من نقطة كاملة، وخسرت أكثر من 1.3% من قيمتها في غضون شهر، لتصل، بحسب "بلومبرغ"، إلى أسوأ مستوى تسجله سندات اليوروبوندز اللبنانية في السنوات العشر الأخيرة.

الدولة اللبنانية​ تصدر سندات اليوروبوندز من أجل تمويل ديونها بالعملات الأجنبية، وهذه السندات، لكونها محمولة في الخارج (سواء من مستثمرين لبنانيين أو أجانب)، تخضع لقواعد دولية لجهة الإصدار والتداول في الأسواق الدولية، وبالتالي ، يجري بيعها وشراؤها بحسب نظرة الأسواق إليها وتقويمها لدرجة المخاطر للدولة التي أصدرتها.

على هامش مؤتمر ​يوروموني​ الذي انعقد في بيروت في حزيران الفائت ، أعلن ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ ، انّ مصرف لبنان سيكون على تواصل مع ​وزارة المالية​ للبحث في الآليات التي قد تؤدّي الى النتائج المرجوة على صعيد خفض كلفة خدمة الدين العام، والتي اعتمدتها الحكومة ضمن مشروع قانون موازنة 2019، والتي تحافظ في الوقت نفسه على الثقة والاستقرار.

وشدّد على انّه لم يتم التوصل الى أي صيغة نهائية بعد مع وزارة المالية حول الآلية التي سيتم اعتمادها، " ولكنّ المهمّ هو النتيجة المضمونة التي سنصل اليها والتي ستحقق وفراً في الموازنة يصل الى 700 مليون دولار. لكنّ أي عملية سنقوم بها من اجل تأمين هذا الوفر المالي في الموازنة، ستكون عملية مدروسة بين البنك المركزي ووزارة المالية، لأنّ مصرف لبنان بات يحمل معظم الدين العام". ورفض سلامة حصر الآلية بموضوع اصدار سندات بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة واحد في المئة، مؤكّداً انّه لم يتم البحث أساساً في هذا الموضوع.

ولفت سلامة الى انّ وضع المصارف خاصّ لأنّها محكومة بنتائجها وإمكانياتها المالية، «وبالتالي لن تُلزمها أي جهة كانت، بأي إجراء وليس مطلوباً منها أساساً ان تشارك في أي عملية سنقوم بها». مشيراً الى انّه تمّت معاقبة المصارف مسبقاً من خلال الضرائب المفروضة عليها والتي تكبّدها اعباء مالية كبيرة. وشدّد على اهمية الحفاظ على صلابة المصارف لانه عامل مؤثر على الاقتصاد.

من جهته ، يكشف وزير المال علي حسن خليل ان هناك اكثر من 124 معبر تهريب في لبنان، واعتبر أن ظاهرة التهريب "تهدد اقتصاد البلد وتساهم في عجر المالية العامة وتقليص ​الواردات​"، واصفاً إياهاً بأنها "واحدة من أبرز علامات تحلل الدولة في القيام بواجبها"، شاكياً عدم القدرة على اتخاذ "خطوات حقيقية في اتجاه ضبطه". وإذ نبّه إلى أن استمرار هذا الوضع "سيُسقط البلد على المستوى المالي وقدرته على الصمود وعلى التطور"، قال: "لا يمكن ان نسجل اننا دولة حقيقية ونحن نشهد ونرى وربما البعض يرعى مثل هذه المخالفات".

والسؤال المطروح لماذا الدولة لا تحصل ما لها وما هو حقها من واردات بدلا من الذهاب الى مكان آخر وتوريط "المركزي" والمصارف في اصدارات جديدة لخدمة الدين؟

أن مستوى التهرّب الجمركي والتهرّب على المستوى الضريبي يشكلان واحداً من ابرز عوامل استنزاف المالية العامة وعدم القدرة على تحقيق التوازن المطلوب.ولكن المطلوب اتخاذ القرار السياسي.