مع اقتراب لجنة المال وال​موازنة​ في المجلس النيابي من انجاز كل مواد قانون الموازنة، وإصرار كافة الأفرقاء على أنه لا تهاون في موضوع التنفيذ، لا تزال وكالات التصنيف الدولية تقلّل من أهمية الموضوع، حيث رجّحت وكالة "​موديز​" أن خطة مسودة موازنة العام 2019، والتي تهدف إلى معالجة ​الوضع المالي​ الصعب، من خلال ​خفض الإنفاق​ وزيادة الإيرادات وإعادة تمويل ​أذون خزانة​، لن تحدث تغييرًا كبيراً في مسار ديون البلاد.

أما "​فيتش​"، فأشار مدير الفريق السيادي توبي إيلس إلى ن تنفيذ ​​الميزانية​​ "الطموحة إلى حد كبير" عامل حاسم. وأضاف: "قد يكون هناك بعض التأثير الإيجابي على المعنويات ... لكنني أعتقد أنه بالنظر إلى سجل الأداء (عدم تنفيذ تخفيضات في الإنفاق) فإن الناس سيتطلعون إلى أن يروا بعض النتائج لكي يكون لهذا تأثير مستمر على الثقة".

ما هي صحّة هذه التوقعات؟ وما هو رأي الخبراء اللبنانيين؟ لمعرفة المزيد حول هذا الموضوع ومواضيع أخرى، كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع مدير عام مساعد ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عودة​"، د. مروان بركات:

ما هو رأيك بمواد الموازنة المتعلقة بالقطاع المصرفي؟ وماذا سيكون تأثيرها على هذا القطاع؟

لا شك أن ارتفاع الضريبة على الدخل من الفوائد من 7% إلى 10% سيؤثر سلباً على ربحية ​القطاع المصرفي اللبناني​ التي ترزح أصلاً تحت وطأة الضغوط على المردودية. إننا نقيّم الدخل الفائت في القطاع نتيجة هذا الإجراء بما يقارب 300 مليون دولار سنوياً أو ما يوازي 15% من الأرباح المصرفية الإجمالية. يجدر الذكر أن القطاع المصرفي اللبناني سجل أرباحاً صافية بقيمة 400 مليون دولار خلال الفصل الأول من العام 2019، مع العلم أن ربحية القطاع في الفصل الأول من العام 2018 شكلت 22% من أرباحه للعام 2018. عليه، إذا قمنا بتطبيق نفس النسبة على ربحية الفصل الأول من العام 2019، سنتوصل إلى أرباح صافية سنوية بقيمة 1,900 مليون دولار للعام 2019 وستنخفض إلى 1,750 مليون دولار بعد الأخذ في الاعتبار تأثير الضريبة على الدخل من الفوائد خلال النصف الثاني من العام، وهي تقارن مع 2,234 مليون دولار في العام 2018 و2,672 مليون دولار في العام 2017. في هذا السياق، يتقلص العائد على حقوق المساهمين من 11% في العام السابق إلى 9% في الفصل الأول من العام 2019 ويصل إلى 8.3% على أساس سنوي بعد تطبيق الضريبة الجديدة على الدخل من الفوائد.

هذا الإجراء على القطاع المصرفي اللبناني في وقت يتزايد العبء الضريبي على القطاع المعروف بشفافيته ودقة إفصاحه. على سبيل المثال، يشكل موظفو ​المصارف​ اللبنانية 2% من القوى العاملة، بينما تمثل رواتبهم 8% من مجموع الرواتب في لبنان، ويقومون بتسديد نحو 24% من مجموع الضرائب على الرواتب في لبنان. كذلك، تمثل ​المصارف اللبنانية​ نحو 7% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي، وتمثل ربحيتها 12% من مجموع الأرباح في لبنان، في حين تسدّد 31% من مجموع الضرائب على الأرباح في لبنان. ناهيك عن الضريبة على الدخل من الفوائد التي تدفعها المصارف حالياً والتي تمثل 51% من الضرائب على الدخل من الفوائد في لبنان. إن مجموع الضرائب (ضريبة الأرباح والضريبة على الدخل من الفوائد) لدى المصارف اللبنانية تثمل 38% من أرباحها قبل الضريبة، وهذا ما يدل على المستوى الضريبي المرتفع المفروض عليها وفق معايير المقارنة الدولية. في هذا السياق، يجدر التنويه بالتضحيات التي تقوم بها المصارف على صعيد تعزيز إيرادات الدولة والقيام بواجباتها الائتمانية على اختلافها لتأمين عوامل الصمود لمالية عامة هشّة في الإجمال.

يتحدث مسؤولون في وكالات التصنيف الدولية عن أن الموازنة "طموحة إلى حدّ كبير" بالإضافة إلى أنها تشكك في التنفيذ، ما هو رأيك بهذا الموضوع وما هو تأثير هكذا تصريحات على نظرة ​المجتمع الدولي​ للبنان؟

رغم تحفظ بعض المواقف فيما يتعلق ب​الموازنة العامة​ في لبنان، إلا أن الاتجاه العام للمراجع الدولية ينطوي على ترحيب بالجهود الإصلاحية والتقشفية التي رافقت موازنة العام 2019. في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن عدداً من ردود الفعل الدولية قد صدرت فيما يتعلق بالموازنة العامة. بالنسبة إلى وكالات التصنيف، فقد ذكرت وكالة "موديز" أن مشروع الموازنة يستعيد الفائض الأولي في المالية العامة لكن مسار نسب المديونية لا يزال يشوبه تحديات. كما صدر عن وكالة "فيتش" إنه قد يكون هناك بعض التأثير الإيجابي على المناخ العام ولكن الوكالة ترغب في رؤية بعض النتائج الملموسة بغية أن يكون للموازنة تأثير مستدام على عامل الثقة.

وفي السياق ذاته، أصدر ​معهد التمويل الدولي​ تقريراً يشير فيه إلى أنه في ظل جهود التصحيح المالي الحالي، فإن نسبة العجز المالي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي ستتبع مساراً تنازلياً من 11٪ في العام الماضي إلى 1.2٪ في العام 2023، مع انخفاض في نسبة الدين العام إلى الناتج من 150٪ إلى 130٪ خلال نفس الفترة. كما أصدر مصرف "​مورجان ستانلي​" تقريراً يشير فيه إلى أنه من المرجح أن تتم معالجة المخاوف المرتبطة بالمالية العامة بشكل جزئي، والأهم من ذلك أنه في حال مهدت اقتراحات الموازنة الجديدة الطريق أمام صرف بعض التزامات مؤتمر "سيدر" البالغة 11 مليار دولار، فإن الأسواق المالية من شأنها أن تتلقف الأمر بشكل إيجابي. بناءً على ذلك، فإن "مورجان ستانلي" لم يعد يتأبى التوظيف في سندات ​اليورو​ اللبنانية خاصةً بالأسعار الحالية، مما أدّى إلى تغيير توصياتهم إلى Neutral.

هذا وأصدر مصرف “Merill Lynch” مؤخراً تقريراً أشار فيه إلى أن موازنة العام 2019 تبشّر ببدايةٍ لعملية التصحيح المالي لسنوات قادمة في ظل الجدّية في التعاطي مع هذا الملف الملحّ، ناهيك عن أن هذه الموازنة قادرة على تحقيق خفض في نسبة العجز المالي العام بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الثاني من العام الحالي، بما يتماشى مع الالتزامات المطلوبة من قبل ​الحكومة اللبنانية​ تجاه الجهات المانحة. من جهته، أشار مصرف "​جيه بي مورغان​" إلى أن موازنة العام 2019 تعزز الآمال في معالجة الاختلالات القائمة، دون وجود صعوبات في تمويل عجز الموازنة، لكن المصرف توقع أن تبقى الاحتياطيات الأجنبية تحت الضغط مع توقعات بالحفاظ على استقرار سعر صرف العملة الوطنية بالمدى المنظور.

بتنا اليوم قريبين من نهاية النصف الأول من العام، هل ترى أن وتيرة العمل في موضوع الموازنة مناسبة للوضع ال​اقتصاد​ي الذي يمر به لبنان؟

صحيح أننا بتنا اليوم في منتصف العام 2019 والموازنة العامة لم تُقرّ بعد، إلا أن الطابع التقشفي للدولة، والذي يعكس إرادة حقيقية عند مختلف الأطراف السياسية بالسير وفق مسار تصحيحي للوضع المالي العام، قد طغى بطبيعة الحال على أداء المالية العامة خلال النصف الأول من العام 2019 التي شهدت جهوداً لضبط ​الإنفاق العام​ نظراً للإجماع السياسي على ضرورة احتواء نسب العجز في بلد أثقلته ​الديون​ المتزايدة وبالتالي تحقيق سيناريو الهبوط الآمن المرجو في أوضاع المالية العامة. أما وقد أصبحنا على قاب قوسين من إقرار الموازنة في البرلمان، فإن التحدي الأبرز يكمن في أن تتوصّل مناقشات لجنة المال والموازنة إلى إيجاد إيرادات بديلة لتلك المواد التي عُلقت أو ألغيت والمتعلقة بتأمين إيرادات للموازنة والشروع بعدها إلى إطلاق العجلة التشريعية وإقرار الموازنة العامة بسرعة والحفاظ قدر المستطاع على نسب العجز التي توصّل إليها ​مجلس الوزراء​ أي 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

ما هي توقعاتك للنشاط الاقتصادي الحقيقي ونسب النمو في لبنان خلال العام الحالي؟

شهد الاقتصاد اللبناني الحقيقي مزيداً من الوهن في الأشهر القليلة الأولى من العام 2019، كما يتضح ذلك من خلال المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن ​مصرف لبنان​ والذي يعكس أداء نشاط القطاع الحقيقي، بحيث سجل الأخير تراجعاً نسبته 4.3٪ خلال الفصل الأول من العام 2019 بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام الماضي، في مقابل نمو إيجابي وإن واهناً خلال السنوات القليلة الماضية، مما يشير إلى أن اقتصاد القطاع الحقيقي يرزح تحت ضغوط متزايدة. هذا ال​انكماش​ في المؤشر الاقتصادي العام لا يعني بالضرورة أن ​نمو الناتج المحلي الإجمالي​ الحقيقي سلبي. فقد توقع ​صندوق النقد الدولي​ أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 1.3% في العام 2019، مما يشير إلى أن الاقتصاد الوطني لا يزال يتجنب الوقوع في فخ ​الركود​ الذي يمكن أن يشهده في حال سُجل انكماش صافٍ أو نمو سلبي في اقتصاد القطاع الحقيقي.

وما يدعم ​النمو الاقتصادي​ هذا العام هو الاستهلاك الخاص وتحسن حركة التصدير إلى حد ما. إذ يستفيد الاستهلاك الخاص من تحسن الأداء السياحي، لاسيما في ظل رفع الحظر السعودي بحيث ارتفع عدد ​السياح الخليجيين​ بنسبة 50٪ خلال الفصل الأول من العام 2019، مما أدّى إلى نمو في قيمة المشتريات المعفاة من الضريبة بنسبة 12.2٪ خلال هذه الفترة. كما شهدت الصادرات ارتفاعاً نسبياً هذا العام، مدفوعًا بإعادة فتح الطرق البرية عبر ​سوريا​ وسط شبه استقرار للوضع الأمني فيها. في المقابل، إن أكثر ما يثقل النمو الاقتصادي في لبنان هو وهن الاستثمار الخاص، لاسيما مع تأجيلٍ للقرارات الاستثمارية الخاصة وتردّدٍ في الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة في ظل الأوضاع العامة الشائكة محلياً وإقليمياً، علماً أن للاستثمار الخاص بالإجمال تأثير مضاعف على النمو الاقتصادي، بحيث أن تباطؤ الاستثمار يؤثر بشكل ملحوظ على نشاط القطاع الحقيقي بشكل عام.