يصح في هذه الآونة وصف الوضع السياسي في لبنان بمرحلة ذروة المناكفات وشد الحبال بين الاطراف، واما ​​الوضع الاقتصادي​​ فهو موسم ال​موازنة​​ المبطّنة بالالغاز والثغرات كما يراها معظم المراقبين المحليين.

ولاشك ان ​​المجتمع الدولي​​ الذي يستنجده لبنان عند اوقات الصعاب يعلّق الآمال على ان يتوصل المسؤولون في لبنان ، المهدد بالانهيار الاقتصادي الى وضع موازنة انقاذية حقيقية شفافة تضع القطار الاقتصادي على المسار السليم .

وهناك اقتناع بانه اذا لم يتوّصل لبنان الى تبنّي موازنة عادلة تحقق الفائض المطلوب، وتلجم الهدر ، وتضبط النفقات العشوائية فإن اي مساعدة دولية لن تجد طريقها اليه .

مؤخرا ً، جدّد ​​البنك الدولي​​ بما تعهّد به من تمويل لعدد من القطاعات في لبنان في إطار مؤتمر سيدر. وقد أتى تجديد الالتزام هذا في خلال اللقاء الدوري بين المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه ووزير المالية ​​علي حسن خليل​​.

وأثنى كومار على ما تضمنته موازنة العام 2019 من إصلاحات تعتبر مشجعة للمجتمع الدولي وتدخل في إطار ما هو مطلوب في المرحلة الراهنة متمنياً أن ينتهي المجلس النيابي مناقشتها وإقراراها بأسرع وقت ممكن.

"ما هو مهم في موضوع موازنة 2019 ان الدول المانحة في سيدر اصبحت على ​​علم​​ بان العجز سيبدأ المنحى التراجعي ، واذا كان هناك بعض التصاريح الايجابية من هذه الدول في هذا الخصوص، على سبيل المسايرة والتشجيع مثل تصريح السفير الفرنسي برونو فوشيه والذي كان واضحاً بهذا الموضوع اذ اعتبر ان ​​الموازنة​​ تلبي بعض مطالب الدول المانحة، لا بد من التذكير انه في كانون الأول، وضعت "وكالة ​​فيتش​​ للتصنيفات الائتمانية" لبنان في فئة 'نظرة مستقبلية سلبية' وهو ما يعني فعليا تحذيرا من خفض تصنيفها الائتماني العالي المخاطر لهذا البلد "B-".

وقال مدير الفريق السيادي في "فيتش"، توبي إيلس لرويترز إن تنفيذ ​​الميزانية​​ "الطموحة إلى حد كبير" عامل حاسم.

وأضاف قائلا "قد يكون هناك بعض التأثير الإيجابي على المعنويات ... لكنني أعتقد أنه بالنظر إلى سجل الأداء (عدم تنفيذ تخفيضات في الإنفاق) فإن الناس سيتطلعون إلى أن يروا بعض النتائج لكي يكون لهذا تأثير مستمر على الثقة".

وتوقعت "فيتش" أن العجز في موازنة لبنان للعام 2019 سيبلغ حوالي 9%، وهو رقم أعلى من توقعات الحكومة.

وقد علّقت الوكالة أيضاً بأنه «من المهم مراقبة قدرة النظام المالي على جذب تدفّقات رساميل إضافية، وقدرة ​​مصرف لبنان​​ على حماية احتياطاته بالعملة الأجنبية». وأشارت إلى أن إجمالي الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة لدى المصرف المركزي البالغة 31.1 مليار دولار، قادرة على تسديد مستحقّات الدّين العام لشهر تشرين الثاني المقبل البالغة 1.5 مليار دولار، ومستحقّات شهر آذار 2020 البالغة 1.2 مليار دولار.

ووفق تقرير صادر عن وكالة التصنيف الدولية «ستاندرد أند بورز جلوبال للتصنيفات الائتمانية »، فإن تخفيض العجز أمر أساسي لتخفيض مستويات الدين العالية في لبنان. إنما هذه الخطوة الإيجابية قد لا تكفي لإستعادة ثقة المستثمرين والمودعين غير المقيمين، آخذة بعين الاعتبار أّن تطبيق الإجراءات سيبدأ في النصف الثاني من عام 2019.

ما هي حقيقة مواقف هذه الجهات ؟وما هي اصداءها على الوضع الاقتصادي ؟

غبريل

يلفت رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في ​​مجموعة بنك بيبلوس​​ الدكتور نسيب غبريل الى انه حتى تاريخه ما من مؤسسة دولية اعلنت عن رأيها بمشروع موازنة 2019 في لبنان بشكل رسمي.

وكل ما نشر في هذا السياق نقلته وكالة رويترز عن مؤسسات دولية بشكل مقتضب .

الوحيدة التي ابدت رأيها رسمياً هي وكالة " ​​موديز​​" العالمية. ويقول غبريل " للاقتصاد" خلال هذا الاسبوع سيزور لبنان وفد من ​​صندوق النقد الدولي​​ لإجراء تقييم للوضع الاقتصادي وما تتضمنه مشروع قانون موازنة العام 2019، على ان يصدر بياناً صحافياً مفصلاً يحمل اسم "article 4" بعد اسبوعين يتضمن توصيات، وذلك في ضوء لقاءاته مع المعنيين في لبنان ؛ مثل وزير المال ، ​​حاكم مصرف لبنان​​، ​​المصارف التجارية​​ ، ​​الهيئات الاقتصادية​​ ...

وبالتأكيد، التوصيات مهمة ولكن غير ملزمة ، لأن لبنان ليس عنده برنامج مع الصندوق ليكون ملزماً بتوصياته. ولكن هذا البيان سيكون في متناول السفارات ، وكالات التصنيف الدولية ، الدول المانحة وغيرها... هذا وسيزور فريق من وكالة "ستاندرد اند بورز" لبنان في آب.

اما بالنسبة للبنك الدولي فانه بصدد تحضير تقرير فصلي عن الوضع الاقتصادي.

وبالعودة الى وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني فهي تتوقع ان تحقق الموازنة فائضاً اوليا بنسبة 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2019، على أن يواصل الزيادة إلى 3.5 في المئة بحلول 2023.

وبرأيها ، يمكن للسلطات تحسين ​​الوضع المالي​​ من خلال خفض النفقات و​​إصدار سندات​​ خزينة مع فوائد مخفضة بالشراكة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية ، الا ان ​​الايرادات​​ ستكون محدودة من خلال الضرائب المفروضة بسبب ​​الركود الاقتصادي​​ وهي غير كافية . وتعتبران فرض الضرائب على الفوائد و​​سندات الخزينة​​ و​​شهادات​​ الايداع وتطبيق الازدواج الضريبي منذ العام 2018 سيؤدي الى مزيد من الضغوط على ارباح ​​المصارف اللبنانية​​ .

ووفق الوكالة فإنه مع افتراض بلوغ خدمة الدين 10-11 في المئة من الناتج المحلي وعدم الرغبة في مزيد من الخفض لفاتورة ​​الأجور​​المرتبطة بسلسلة الرتب والرواتب خشية إثارة معارضة شعبية، فإن عجز الميزانية سيظل قرب 7-7.5 في المئة من الناتج. وبالتالي، فإن تخفيض النفقات بشكل خجول دون وقف الهدر ليس مؤشراً الى تغيير المنحى ، علما انه اذا خفضت النفقات بشكل جدي فإن الحركة الاقتصادية ستتحسن بشكل واضح.

كما ان مصرف لبنان يستطيع تغطية العجز من خلال شراء سندات خزينة ولكن هذا سيرفع نسبة ​​التضخم​​. باختصار ،هذا هو رأي اولي " لموديز ".

اما بالنسبة لوكالة "​​ستاندرد آند بورز​​ " التي اكدت تصنيفها للبنان الى B- مع نظرة مستقبلية سلبية في أول آذار فهي ستعلن عن موقفها الجديد في آب المقبل.

وفي موضوع موازنة 2019 التي هي قيد الدرس في ​​مجلس النواب​​ اليوم ، يرى غبريل إن تخفيض العجز بنحو ملياري دولار هو اقل ما كان يتوقعه المراقبون. ولكن لنستطيع تسمية الموازنة بالتقشفية يجب تخفيض النفقات اقله ب 3او 4 مليارات دولار .

ويقول غبريل : "لقد لمسنا بدءاً من 2018 كيف انه بنتيجة الضرائب التي استحدثت تم سحب السيولة من الاسواق وهذا اسفر عن جمود في الحركة الاقتصادية .واذا كان فرض الضرائب خطأ في ذلك الحين اصبح اليوم خطيئة.

فمن المفترض اليوم ضبط الهدر ، مكافحة التهرّب الضريبي ، تطبيق القوانين اللازمة بشكل جدي كحماية ​​الملكية الفكرية​​ ، منع ​​التدخين​​ ، ​​قانون السير​​ وهذا سيؤمن الى الخزينة ايرادات اضافية تبلغ مليار دولار اقله سنوياً .. وهناك 1،2 مليار دولار فواتير ​كهرباء​ ​ ​غير محصّلة ، وهي لمؤسسات رسمية وادارات عامة متخّلفة عن تسديد متوّجباتها."

وأسف غبريل لاستهداف ​​القطاع المصرفي​​ الناجح عن طريق الضرائب لافتاً الى ان الازدواج الضريبي فرض ضرائب تتراوح ما بين 40 و50 %على ارباح المصارف بدءا من 2018 و ستصبح هذه الضريبة 55% وتصل عند بعض المصارف الى 70% اذا أقرت زيادة الضرائب في الموازنة الحالية .

وتساءل غبريل عما إذا كان الهدف تأميم المصارف التجارية معتبراً ان نتيجة احتكار الدولة لعدد من المرافق كالهرباء و​​المياه​​ و الاتصالات وغيرها ... كان سوء إلادارة والهدر.

ان السلطة مدركة لأن ​​القطاع الخاص​​ هو مصدر اولي لايرادات الخزينة ، وبدل العمل على تشجيعه ، وتأمين بيئة تنافسية للاعمال ، وتفعيل الحركة الاقتصادية ،وخلق فرص العمل وتخفيض النفقات غير المجدية يسعون الى ضرب المناخ الملائم للاعمال والقضاء الكلي على الاقتصاد.

اخيرا ً، لابد من القول ان الوكالات والمؤسسات الدولية قالت كلمتها في السابق ، وهي في برج المراقبة لما سيقرره المسؤولون اللبنانييون الذين يتجاهلون مكامن الهدر الفعلي مع استسهال عملية فرض الضرائب وتصغير حجم الاقتصاد . ولكن لا يمكن تجاهل ما ستعكسه الصورة المنقولة عنها الى العالم اجمع وهي تعود لاقتصاد منهك لايحسن المعنييون العمل على تعافيه، بل يفتشون عن إنزال الضربات بقطاعات ناجحة بمجهودها كالمصارف التي تلعب دوراً ريادياً في تصنيف سمعة لبنان العالمية .