الإرادة، الإصرار، والإقدام، صفات اجتمعت في امرأة تتميز بالالتزام والاحترافية. حملت راية النجاح، وعملت على نحت تجربتها المهنية باقتدار، لتمرّ على مدى السنوات من إنجاز الى آخر، وتثبت أن التغيير لا يحتاج إلى أقدام بل إلى إقدام واحترام، وأن التقدم يتحقق من خلال الابتعاد عن الخوف من المجازفة.

تمكنت من التميز بفكرها ومهاراتها من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافها، فلمع اسمها محليا وإقليميا. ولطالما آمنت بأن المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي أيضا عماد هذا المجتمع بأكمله، وأمّه ومربيته ومدرسته الأولى! فالمرأة تطبع سمات محيطها وتنحته لبقية مراحل تطوّره، ومن هنا تظهر أهمية وضرورة العناية بها وتمكينها، على الأصعدة كافة.

كان لـ"الاقتصاد" لقاء خاص مع المسؤولة الإقليمية لبرامج صندوق دعم المساواة بين الجنسين التابع لهيئة ​الأمم المتحدة​ للمرأة (UN Women)، رنا الحجيري، للتعرف اليها أكثر كسيدة فاعلة في العمل الاجتماعي والانمائي من جهة، وكزوجة وأم تقدم التضحيات في سبيل تأمين التوازن في حياتها، من جهة أخرى.

ما هي المراحل التي مررت بها حتى وصلت الى ما أنت عليه اليوم؟

أنا قادمة من عائلة ذات خلفية تقليدية، لكن التعليم يعتبر أساسيا بالنسبة لها، وبالتالي حصلت على ماجستير في العلاقات الدولية من "الجامعة ال​لبنان​ية الأميركية"، "LAU". ولطالما حلمت بالانضمام الى ​منظمة الأمم المتحدة​، وانطلاقا من ذلك، خضعت لفترة تدريب مع "​الاسكوا​" في عام 1999. ومن ثم عملت مع سفير لبنان الأسبق لدى واشنطن الدكتور رياض طبارة، في مركز الأبحاث التابع له. وبعد فترة، عدت الى "الاسكوا" ك​موظفة​، وبدأت مسيرتي مع الأمم المتحدة في مجال التنمية الاجتماعية والحد من الفقر، ومن ثم القضايا الناشئة والنزاعات وبالأخص مجال الحوكمة والإصلاح الإدراي، حيث عملت لبضعة سنوات في برامج لبناء القدرات البشرية والمؤسساتية، والتخفيف من أثر الأزمات والمراحل الانتقالية في المنطقة العربية.

تعلمت الكثير من هذه التجربة، وحبي لعملي وطموحي الدائم بالتطور والقيادة حثني على التطلع الى أفق أوسع من الحد الذي تجيزه الهرمية للموظفيين الوطنيين، كما حثني أن اتطلع الى منصب دولي في الأمم المتحدة. فقررت أنني أريد تحقيق المزيد من التطور وخوض غمار العمل الأممي في أوسع أبوابه.

ففي مرحلة معينة، علينا الاختيار ما بين بناء مسيرة خاصة بنا، أو البقاء في حدود الوظيفة. وبالنسبة لي، لطالما أردت أن أتطور الى أبعد الحدود، ومن هنا تقدمت لنيل منصب مسؤولة برامج صندوق دعم المساواة بين الجنسين التابع لهيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، وهو منصب يغطي برامج الصندوق العالمي للمنطقة العربية، من خلال المكتب الاقليمي الذي كان موجودا حينها في ​الاردن​.

فقررت السفر الى الاردن للعمل في هذا المنصب، وثابرت في التوجه صباح كل أحد الى الاردن والعودة مساء كل خميس الى لبنان، واستمريت على هذه الحالة لسنوات عدة.

ما هو الحافز الذي دفعك الى المثابرة من أجل تحقيق التقدم والنجاح؟

أعتقد أن ما حفزني على مواصلة هذا النشاط الصعب والمتعب، هو حبي اللامتناهي لعملي؛    فنحن لا نعمل على تمكين المرأة من خلال أطر عامة، بل عبر البرامج الميدانية التي تمس   حياتها. ومن هنا، كان التغيير ملموسا، كما كانت النتائج بمثابة محفز يدفعني الى الاستمرار.

ولا بد من الاشارة الى أن نشاطاتنا تغطي المنطقة العربية ككل - وفي مرحلة انتقالية كنت مسؤولة أيضا عن برامج الصندوق في منطقة ​أوروبا​ ووسط ​آسيا​ - نقدم من خلالها المنح للجمعيات غير الحكومية، بهدف دعم المرأة اقتصاديا وسياسيا. وقد مول الصندوق حتى يومنا هذا 122 برنامج على مستوى العالم، حيث وصلنا إلى ما يقارب الـ10 ملايين امرأة مستفيدة من برامجنا.

هل أن الشعور بالتقصير تجاه العائلة ما زال موجودا في داخلك اليوم؟

لا أعتقد أن التوصيف المناسب لحالتي هو التقصير، لكن مسيرتي لم تكن سهلة على الإطلاق، إلا أن طريقي هو طريق أي امرأة أرادت كسر جدار والطريق التقليدي المفترض لها!

ولم يكن قراري سهلا، اذا عايشت معضلة صعبة للغاية في اتخاذ القرار وتحمل تبعاته، لأنني من جهة زوجة وأم لطفل - كان يبلغ من العمر وقت ذاك ست سنوات - قررت أن تترك عملها المؤمن في بيروت وتدخل غمار المنافسة وتسافر الى بلد آخر للعمل، ومن جهة أخرى أصبحت مسؤولة عن ​حقيبة​ كبيرة من البرامج وصلت في مجملها الى 32 برنامج، وبالتالي عليها إثبات نجاحها. أما زوجي، فكان يعبّر عن بعض التحفظات، مثل أي رجل آخر، ولكنه في الوقت ذاته، يعلم كم يعني لي هذا الموضوع والأهمية التي أوليها لعملي والجهد الذي بذلته خلال هذه المسيرة، ومن هنا، وقف الى جانب قراري.

اذ ليس من السهل أن تقرر إمرأة متزوجة وأم في مجتمع عربي - مهما كان منفتحا - أن تترك ابنها وعائلتها، وتسافر من أجل أداء عملها. وهذا القرار صعب للغاية، بسبب شعورها بالذنب في مجتمع يحاربها من خلال الضغوط النفسية التي يفرضها عليها؛ فعلى سبيل المثال سمعت من الكثيرات أنك "ستندمين"، و"سيكبر ابنك ولن يحبك"، الخ...

ولكن في الحقيقة أنا اليوم فخورة بعائلتي، وأرى أن الأم المثقفة والناجحة قادرة أن تعطي لعائلتها وتكون نموذجا لأولادها، يفتخرون بها ويحبونها. فالساعات وعددها لا تصنع الحب، وإنما ما يشكل هذه الساعات، وما يطبع أوقاتك معهم، وهذا الرابط والعلاقة هي العوامل التي تصنع العائلة.

ويبقى الصراع في كيفية خلق التوازن بين العمل والطموح، وفي حالتي بين السفر والالتزامات المهنية من جهة، وبين عائلتي من جهة أخرى. وأعتقد أنه لو شغل الرجل منصبي، لم يكن ليوضع في نفس الخانة من الموازانات والضغوطات، لأنه لا يملك المسؤوليات ذاتها، كما أن المجتمع سيكون متقبلا لدوره وسفره وتغيبه عن المنزل؛ فلا يتقبل الدور ذاته للمرأة بسبب واجباتها العائلية والدور النمطي والتقليدي الذي طبع مفهوم الذكورية، ووزع الأدوار وموازين القوى بين الرجل والمرأة.

ففي النهاية، أي نجاح لا ولن يقدم للمرأة أبدا على طبق من فضة، بل هي تتنزعه دائماً، ولا يعطى لها.

أخبرينا أكثر برنامج "نسوة" الذي تعملون على تنفيذه في الوقت الحاضر؟

نحن نهتم بالعديد من برامج التمكين الاقتصادي للمرأة في مختلف ​الدول العربية​، ومعظم مشاريعنا تركز على ​النساء​ الريفيات، لأننا نعتقد أن هذه الفئة مهمشة كثيرا.

ومن المعروف أن التمكين الاقتصادي للمرأة له مردود إيجابي ليس فقط عليها، بل على عائلتها، كما على النطاق الوطني.

وتطبيقاً لأهداف ​التنمية المستدامة​، عمدنا للوصول الى أكثر الفئات تهميشا واستبعادا في المجتمع، ومن هنا أطلقنا مبادرة "نسوة"، التي نعمل على تنفيذها مع جمعية تنظيم الأسرة في لبنان من أجل التواصل ودعم قدرات النساء الريفيات في القرى النائية في الجنوب اللبناني.

وهذا النموذج الذي نعمل على بنائه، سوف نكرره في مناطق لبنانية عدة، ونأمل أن نتمكن من تطبيقه في دول أخرى أيضا.

و"نسوة" هو عبارة عن خط إنتاج لمنتجات المونة اللبنانية، ولكن ما يميز هذه المبادرة هو الرؤية التي تسعى لنشرها؛ فنحن لن نقدم منتجا ريفيا فحسب، لأن المنافسة باتت واسعة والعرض كبير. وبالتالي فكرنا بالمردود الذي ستحصل عليه النساء، ومدى إمكانية الاستمرار بهذه المبادرة بعد أن ننتهي من تقديم الدعم. وانطلاقا من هذا الهدف، عملنا على تأسيس أربع تعاونيات لكي تكون جاهزة لنيل شهادة الـ"ISO 22000". وعمدنا الى تحضير نموذج فني متكامل يتيح لهذه التعاونيات المنافسة في الأسواق وبقوة. كما تعاونا مع خبراء إيطاليين من أجل زيادة بعض الوصفات التي من الممكن أن تكون مهمة للجيل الصاعد.

وبالاضافة الى ذلك، نعمل مع 15 بلدية في هذا المضمار، اذ نركز حتما على الجانب الاجتماعي من النشاط، ولكن في الوقت ذاته، أدخلنا اليه منطق الريادة والمنافسة مع خبراء لبنانيين ودوليين.

وأطلقنا المنتج خلال مشاركتنا في "ماراتون بيروت" الأخير، الذي كان يحمل شعار "draw your path" أو "طريقك قرارك". فقد أحببت هذا الشعار لأن "نسوة" يضم نساء اخترن طريق المنافسة والنجاح والمثابرة والابتكار والإبداع؛ ف​المرأة اللبنانية​ الريفية قوية لكنها بحاجة فقط الى طريق ووجهة تساعدها في إثبات قدراتها واختيار طريقها.

ما هي الصفات التي ساعدتك على التقدم في مسيرتك؟

أنا عنيدة وطموحة ومثابرة، كما أني أحب عملي وأرى أنه بمثابة رسالة أصل من خلالها الى    ملايين المستفيدات حول العالم، لأعيش ​معهن​ حياتهن، وأواكب مراحل التغيير، وألتمس كم     تحولت حياتهن الى الأفضل من خلال برامجنا.

كما أنني لا أرى مستحيل، وأتبع دائما هذه القاعدة الذهبية: "كل انسان يتخذ قرارا ما، عليه تحمل نتائجه". وبالتالي اذا أخطأت أو نجحت سأتحمل نتائج قراراتي وسأواصل التعلم والمثابرة والمنافسة. وطالما أن الحياة مستمرة، سيبقى الطموح موجودا والأمل نابضا.

ما هي طموحاتك المستقبلية؟

طموحاتي لا تنتهي أبدا، فبعد خبرتي الطويلة التي ناهزت الـ16 عاما في الشأن التنموي والعام، أشعر بقدرتي على تقديم المزيد، فلست موظفة ومن واجباتي القيام بهذا الأمر أو ذاك، بل أنا شخص يحب التغيير ويعشق المنافسة، كما أؤمن بأن العدالة الاجتماعية والعمل من أجل الوصول الى تكافؤ في الفرص ومساواة في الحقوق والواجبات، ونبذ التمييز في كل أشكاله، هي عوامل لا تشكل ​خطة عمل​، بل رسالة وطريق أؤمن به، وقد اخترته بنفسي ولنفسي.

والى جانب ذلك، من المهم أن ترشد المرأة أختها المرأة لكي تساعدها وتقدم لها الدعم اللازم؛ فكل واحدة منا ستكون بحاجة في مرحلة معينة، الى مثال أعلى أو نموذج ناجح لتتمثل به، وهذا هو أيضاً جزء من رسالة أي أمرأة.

ما هي نصيحة رنا الحجيري الى المرأة اللبنانية؟

المرأة اللبنانية ذكية وناجحة، وحتى لو تمت محاربتها أو التشكيك بدورها أو التقليل من شأنها، عليها أن تثق دائما بقدرتها على التغيير، وأن تواصل معركتها للوصول الى المراكز القيادية، ومراكز اتخاذ القرار. فلدينا الكثير من الأمثلة الناجحة لنساء لبنانيات رائدات يشكلن القضوة والمثال، ويؤكدن أن لا مستحيل.

فكل امرأة منا، تلعب دورا أساسيا في هذه الحياة؛ المرأة في الريف، في المدينة، في المنزل، في العمل، في المؤسسات العامة، في القطاعين الخاص أو العام،... أينما وجدت لها دور يتيح لها تحقيق عملية التغيير.

وفي النهاية، أشدد على ضرورة أن تربي المرأة الأجيال على مبدأ المساواة وثقافة التنوع، لكي يبتعد الشبان والشابات عن القوقعة الذكورية في التفكير، ويكبروا على مبادىء المساواة وتكافؤ الفرص. اذ ندعم الثقافة المجتمعية التي تراعي التنوع، وتثري الابتكار، وهذا المفهوم يبدأ من المنزل قبل أي مؤسسة أخرى.